لا ينفك “حزب الله” يكرر مزاعمه بأن العقوبات الخارجية لن تؤثر على إمكانياته، ولكن الأدلة تشير إلى أن التنظيم يمر بأزمة مالية خطيرة. فقد بدأ قادته باتباع تدابير تقشفية جديدة وقاسية فيما تعتقد المصادر المقربة من الحزب أن هذه التدابير ستشتد صرامةً مع الوقت، علمًا بأنها فاجأت العديد من أعضاء “حزب الله” وأتباعه، بما في ذلك المقاتلون العاديون الذين لم تطلهم إلى حدٍّ كبير تخفيضات الميزانية في السابق. وأبرز ما في الأمر هو أن حملة التقشف هذه تزعزع صورة “الأب الحارس” التي يتمتع بها الحزب بين أبناء الطائفة الشيعية. وإذ أن “حزب الله” اليوم يبحث عن مصادر تمويل جديدة، ثمة طرق عديدة لإيقافه.
ما الذي تغير؟
بدأ تطبيق التدابير التقشفية خلال الأشهر القليلة الماضية، وقد نسبها “حزب الله” إلى العقوبات الأمريكية على إيران التي تعتبر الراعي الرئيسي للتنظيم. وعلى حد قول الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في 14 آب/أغسطس، سيواجه “حزب الله” مشكلة مالية “طالما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موجود في الحكم”. وفي حين طمأن نصر الله المستمعين إلى أن الحزب سيبقى صامدًا بفضل بنيته التحتية الصلبة، عجز المسؤولون حتى الآن عن الوفاء بهذه الوعود.
فمع انخفاض عدد المعارك في معظم الأراضي السورية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أعاد “حزب الله” العديد من عناصره إلى بلادهم فيما بقيت القوات القتالية واللوجستية متمركزةً في دمشق ودير الزور وجنوب سوريا. وما فعله الحزب تحديدًا هو إعادة نشر العديد من مقاتليه الجدد الذين جنّدهم خلال الحرب بموجب عقود مؤقتة ولم يعد مضطرًا لدفع أجورهم بما أنهم عادوا إلى ديارهم.
في الوقت نفسه، أفاد تقرير صادر في كانون الثاني/يناير على موقع “سكاي نيوز عربية” بأن الموظفين في مؤسسات “حزب الله” الإعلامية والتربوية والطبية والعسكرية يشتكون من تخفيضات حادة في الرواتب والأجور، وقيل إن بعضهم لم يتقاضَ إلا ستين في المائة من راتبه ذلك الشهر. هذا ويتوقع الموظفون تخفيضات إضافية في المستقبل الوشيك.
فضلاً عن ذلك، بدأ المقاتلون وعائلاتهم يتذمرون هم أيضًا من الرواتب المقتطعة – وهذا تطور لم يسبق حدوثه – حيث أفيد أن المقاتلين المتزوجين لا يتقاضون إلا نصف راتبهم (الذي يتراوح عادةً بين 600 و1200 دولار شهريًا) فيما المقاتلون العازبون يقبضون 200 دولار في الشهر لا أكثر.
وفي ما يتعلق بالقطاعات الأخرى، اقتبست وسائل الإعلام المحلية عن مصادر “حزب الله” قولها إن الموظفين في مؤسسات الحزب الدينية لم يتقاضوا رواتبهم منذ ثلاثة أشهر. أضف إلى أن الحزب أقفل نحو ألف مكتب وشقة سكنية تابعة له في لبنان وقام بدمج العديد من مؤسساته وأوقف كافة عمليات التوظيف. هذا وقد تراجعت ميزانية خدماته الاجتماعية علاوةً على الخفض الذي شهدته عام 2013.
التفكير على المدى البعيد
مع أن إيران لم تقطع إمداداتها المالية عن “حزب الله” حتى اليوم، إلا أن التنظيم يدرك أن استمرار العقوبات و/أو تغير الظروف الإقليمية قد يضطرّه إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة مع الوقت. فإذا نشبت مثلاً حربٌ جديدة مع إسرائيل، قد لا تتمكن طهران من إرسال الشاحنات المحمّلة بالنقود إلى لبنان كما سبق أن فعلت خلال حرب 2006. وعلى النحو نفسه، قد لا تكون الدول الأخرى مستعدة لتمويل مشاريع إعادة الإعمار مرة أخرى بعد الحرب بما أن “حزب الله” يسيطر اليوم على الحكومة.
كما أن “حزب الله” يعلم أن لطهران نشاطات مكلفة أخرى خارج لبنان، ومعظمها يشمل عناصر من “حزب الله”. فأنشطتهم في سوريا تدخل اليوم مرحلة جديدة تقوم على ترسيخ وجودهم العسكري والسياسي في البلاد عبر مبادرات “القوة اللينة” وشراء مساحات شاسعة من الأراضي وتجنيد الرجال السنة في الجنوب ودير الزور وإنشاء مشاريع اجتماعية وثقافية لغرس عقيدتهم في نفوس الشباب السوري. وإذ تتطلب كل هذه المبادرات إجراء تغييرات في الميزانية، يبدو قادة “حزب الله” مصممين على إجراء التخفيضات اللازمة في لبنان (حيث يعتبرون أن الشيعة قادرين على تحمل هذه التضحيات) بهدف توطيد وجودهم في سوريا (حيث نفوذهم أضعف).
مصادر تمويل جديدة
أخذ “حزب الله” يبحث عن مصادر تمويل بديلة لمعالجة أزمته المالية والحؤول دون تفاقمها نتيجة العقوبات، وهي التالية:
بعد أن شق “حزب الله” طرقات جديدة إلى داخل المؤسسات العامة في أعقاب الانتخابات النيابية التي جرت العام الفائت، يسعى اليوم إلى استخدام مختلف الموارد العامة لتهدئة مخاوف ومشاكل مجتمعه. فحين تشكلت أخيرًا الحكومة في كانون الثاني/يناير من هذا العام، أصبحت وزارة الصحة تحت سيطرته المباشرة، والجدير بالذكر هو أن ميزانية هذه الوزارة هي رابع أكبر ميزانية في لبنان وتقدَّر بـ338 مليون دولار سنويًا. وبخلاف الوزارات الرئيسية الأخرى، توزّع هذه الوزارة غالبية أموالها مباشرةً على المواطنين عوضًا عن دفعهم على شكل رواتب لموظفيها، ما يتيح لـ”حزب الله” تحويل مبالغ طائلة إلى أتباعه المتضررين من سياسته التقشفية الداخلية وأيضًا استخدام الوزارة لإدخال الأدوية الإيرانية إلى لبنان.
أصبح لـ”حزب الله” من خلال حلفائه السياسيين نفوذٌ في كلٍّ من وزارة الأشغال العامة والنقل ووزارة الزراعة ووزارة الطاقة والمياه، وبات بوسعه الاستعانة بها لتمويل مشاريع وأعمال تجارية خاصة به.
أفيد أن مسؤولي “حزب الله” أبلغوا حلفاءهم في “حركة أمل” أنهم سيتولّون تعيين نصف الوظائف الحكومية المخصصة دستوريًا للشيعة، بعد أن اعتادت “حركة أمل” الاستفادة من هذه الحظوة للحفاظ على قاعدة شعبيتها الخاصة، ولكن لم يعد بإمكان “حزب الله” التخلي عن هذا الكسب المفاجئ بل من المحتمل أن يعطي تلك المناصب لأتباعه ومقاتليه.
يحث “حزب الله” اللبنانيين من الطائفة الشيعية أكثر فأكثر على دفع “الخمس” أي الضريبة الدينية التي تشكل خمس ما يملكه الفرد من أموال. وبما أن التنظيم مرتبط بالعديد من السلطات الدينية التي تجبي هذه الضريبة، من الممكن أن يستفيد منها إلى حدٍّ كبير.
ما ساعد “حزب الله” أيضًا هو ارتفاع حجم التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية وعبر مرفأ بيروت، سيما وأنه يسيطر على كلا جانبَي الحدود وعلى المرافئ.
أعطى “حزب الله” مؤخرًا موافقته على المساعدات التي تعهد بها مؤتمر “سيدر” المنعقد في نيسان/أبريل الماضي برعاية فرنسية والتي بلغت قيمتها 11 مليار دولار، بعد أن كان معترضًا على الفكرة طوال أشهر لأنها ستضع لبنان تحت مجهر المجتمع الدولي (لمعرفة المزيد حول الوضع الراهن لهذه المساعدات، يرجى الاطلاع على الفقرة الختامية من مقالة “بوليس واتش” هذه). لكن التنظيم يطالب بتوجيه الأموال إلى ميزانيات الوزارات بدل الشراكات بين القطاعين العام والخاص – وهي الآلية المفضلة عمومًا للاستثمارات الأجنبية، وآلية مهّدت لها الحكومة السابقة عبر إقرار “قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص” سنة 2017. فإذا نُفّذ طلب “حزب الله”، سيسهل عليه الوصول إلى أموال “سيدر” عن طريق الوزارات الخدماتية العديدة التي يسيطر عليها حلفاؤه.
الشركات الشيعية المشروعة لا تستحق العقاب
بسبب الأنشطة المتعددة غير المشروعة التي يمارسها “حزب الله” في لبنان والخارج، أصبح شيعة لبنان بأسرهم مصنّفين “مصدر خطر كبير”. وبات الخيار الأسهل أمام الكثير من المستثمرين الذين يفكرون في عقد الصفقات في ذلك البلد هو تفادي أي شراكة مع شركات مملوكة من مواطنين شيعة، وهذا يؤدي بشكل مجحف إلى تهميش رجال أعمال مشروعين.
من هذا المنطلق، يجب على الحكومة الأمريكية التركيز على إطلاع المؤسسات الدولية والمواطنين اللبنانيين على الجهات والأنشطة المستهدفة بالعقوبات على “حزب الله”. ولطالما كرر المسؤولون في وزارة الخزينة الأمريكية أن القصد من العقوبات ليس معاقبة المجتمع الشيعي بأسره، ولكن لم تُبذل أي مساعٍ جدية للتواصل مع الشركات الشيعية. فإذا حصلت مثل هذه المناقشات لساعدت واشنطن على فهم وقع العقوبات بشكل أفضل ووضع الاستراتيجيات المناسبة لتفادي الأضرار الجانبية الجسيمة.
ولكن العقوبات تركت في الوقت نفسه نتائج واعدة حتى الآن. فرجال الأعمال المعارضون لـ”حزب الله” يريدون حماية استثماراتهم، والأهم من ذلك هو أن الكثير من رجال الأعمال الشيعة يتوقون إلى قطع أي صلة بين مصالحهم والشركات المقربة من “حزب الله” ويبحثون عن التوجيهات والمعلومات المتعلقة بالطريقة الفضلى لفعل ذلك.
أما “حزب الله” من جهته فيلوم الولايات المتحدة على مشاكله المالية ويطلب من مناصريه أن يقاوموا ويثابروا، فهو يقرّ بعمق المشكلة إنما يعتبرها في الظاهر مؤقتة. على سبيل المثال، ذكر أحد كبار القادة في مقابلة أجريت معه في كانون الثاني/يناير أن التنظيم فقد أكثر من أربعين في المائة من مناصريه الشيعة قائلاً: “نعلم أن هذه النسبة سترتفع، ولكننا لسنا قلقين. فالذين تركونا ليس لديهم ملجأ آخر، وسيعودون إلينا حين تنتهي الأزمة”.
وبالفعل لا يتوفر حاليًا أي بديل أمام الشيعة المحبطين، وهذا ما جعل الكثيرين منهم يشعرون بأنهم معزولون ويتعرضون لعقاب جماعي. ولكن يمكن قلب الأمور إذا أعطتهم الولايات المتحدة وغيرها من الأطراف الفاعلة بدائل ملموسة على غرار تحسين قدرتهم على الحصول على القروض والوظائف.
ماذا عن أموال “سيدر”؟
إلى حين توفر مثل هذه البدائل، يجب على واشنطن أن تحرص في ما يخص الأموال التي تعهد بها مؤتمر “سيدر” أن يتلقاها لبنان من البنك الدولي أو المملكة العربية السعودية أو غيرهما من الجهات المانحة الرئيسية عبر عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص لا عبر موازنات الوزارات اللبنانية. وبذلك لن يتمكن “حزب الله” من التحكم بكيفية إنفاق هذه الأموال أو عرقلة الإصلاحات المرتبطة بها.
حاليًا يخطط البنك الدولي لإصدار ورقة سياسات تحدد شروط صرف هذه الأموال. ولكن بحسب منظمة “هيا بنا” اللبنانية غير الحكومية – التي تملك خبرة طويلة في مراقبة العلاقة بين لبنان والجهات المانحة – تفتقر المنظمات الدولية إلى المعلومات اللازمة لتفادي أي صفقات غير مقصودة مع مؤسسات تابعة لـ”حزب الله”. ولهذا من الضروري أن تنخرط الولايات المتحدة في حوار جازم مع البنك الدولي في أقرب وقت ممكن لتحرص على ألا تصبح تلك المليارات مصدر تمويل آخر لـ”حزب الله”.
معهد واشنطن