منذ صعوده المفاجئ أواسط عام 2014، حقق تنظيم “داعش” نجاحات باهرة في سوريا والعراق وهو اليوم يسيطر على أجزاء واسعة من البلدين ويشكل تهديداً عسكرياً كبيراً. وفيما ينبغي محاربته في كل مكان، تعتبر هزيمته في العراق بالتحديد الخطوة الحاسمة في القضاء عليه في المشرق العربي، وعلى رؤيته الأسطورية لخلافة فاضلة يمكن تأسيسها في عصرنا الحاضر. ولكن الجهود ضد التنظيم اليوم في بلاد ما بين النهرين يجب أن تبدأ بإعادة بناء وهيكلة الدولة العراقية ومؤسساتها، وتجنب الاعتماد على الميليشيات الطائفية، ومعالجة القضايا الشائكة التي ساعدته في تحقيق الانتصارات التي حققها حتى الآن.
داعش في سوريا
من الحماقة الاستخفاف بالنجاحات التي حققها التنظيم في سوريا ضد قوات النظام السوري وتلك في المعارضة. إذ يقدر الخبراء الاستراتيجيون أنه يسيطر على مساحات واسعة تصل إلى 50 بالمائة من الأراضي السورية، علما أن مناطق واسعة من هذه السيطرة هي مناطق صحراوية غير مسكونة. وآخر انتصار له كان في مدينة تدمر الأثرية، وهو من الناحية النظرية ما يسمح للتنظيم بأن يسيطر على كل المنطقة الجنوبية-الشرقية من البلاد وما تبقى من مناطق سيطرة نظام دمشق على الحدود مع العراق. (يجب التذكير في هذا المضمار بالشكوك المحيطة بمعركة تدمر، إذ أن قوات النظام تركت المنطقة بدون قتال.) كما يسيطر التنظيم على مناطق آهلة بالسكان في الشمال والشمال-الشرقي، ويخوض معارك ضد المعارضة المعتدلة والفصائل الإسلامية في مناطق أخرى.
ولكن في نفس الوقت، يتعرض التنظيم ومواقعه العسكرية في سوريا إلى المزيد من الضغوط والتهديدات، وليس بالتأكيد من قوات النظام بل من قوات المعارضة الأخرى المعتدلة والإسلامية، والأكراد وطائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، سيطرت قوات من وحدات الحماية الكردية على مدينة تل أبيض الحدودية، التي يمكن أن تصبح منطقة انطلاق لحملة ضد عاصمة التنظيم في الرقة جنوباً. (قد لا يعتبر هذا الانتصار إيجابياً بالنسبة للمعارضة السورية إذ أن وحدات الحماية الكردية على علاقة حميمة بالنظام السوري.) أما بالنسبة لقوى المعارضة الأخرى، فهي بالرغم من انشغالها بمحاربة قوات النظام، فهي حققت انتصارات ضد داعش في الجنوب وقرب مدينة حلب الشمالية.
وتعاني الدولة الإسلامية التي أسسها التنظيم من عدد من نقاط الضعف التي لا تستطيع تجنبها في سوريا. أولاً، انكشاف قواتها أمام طائرات التحالف الدولي وتعرضها لهجمات دائمة، كما هو الحال في العراق، تمنعها من إرسال تعزيزات إلى مناطق القتال مع القوات الكردية.
ثانياً، وجود قوات كردية متمرسة تستطيع الاعتماد على خطوط إمداد من الفصائل الكردية في العراق ومن مناطق في تركيا.
ثالثاً، العزلة عن فصائل المعارضة السورية الأخرى بسبب هجمات التنظيم عليها بينما هي تحارب قوات النظام السوري، وتصرفاته الهمجية في مناطق نفوذه ضد المدنيين السوريين والعراقيين من جميع الطوائف، وأيديولوجيته القائمة على الإقصاء الديني والعرقي والقتل والسبي.
رابعاً، اقتراب نضوب منابع التجنيد والدعم المالي بعد التشدد الدولي من ناحيتها. وبسبب هذه المشاكل الفعلية، قد يقرر قادة التنظيم أن يحولوا عملياتهم إلى الساحة العراقية وحدها، حيث يجتمع الوضع السياسي المائع بأقل تقدير، مع المؤسسات العسكرية والأمنية الضعيفة والاستياء المسيطر بين السنة العراقيين، ليقدموا لهم فرصة ثمينة للاستمرار على قيد الحياة لفترة لا يعرف مداها.
المعركة الحاسمة هي في العراق
كتنظيم القاعدة في العراق من قبلها، ليس للدولة الإسلامية سبب جوهري أو شرعي أو مقنع للوجود. فانتصار داعش المبكر في شمالي العراق أواسط 2014، جاء في معارك ضد جيش عراقي ضعيف غير كفؤ ينتقص إلى أبسط مبادئ الاحترافية في الجيوش الحديثة، ولا يمتلك مهمة وطنية واضحة بالدفاع عن الدولة، ويتنازع ضباطَه شعورٌ بالانتماء إلى طائفة قبل الانتماء إلى الوطن. وقليلة هي الأمثلة على ثلة متمردة، استطاعت بين ليلة وضحاها التغلب على دفاعات قوية ومعدات بتكنولوجيا عالية وآلاف الجنود، لتقترب قاب قوسين من إسقاط نظام سياسي ودولة بمؤسساتها، كما فعل تنظيم الدولة الإسلامية. وانتصارات التنظيم اللاحقة – في بيجي وتكريت والرمادي وغيرها – جاء بعد أن أن فضلت وحدات من الجيش العراقي الانسحاب بدل الصمود للدفاع عن الأهالي والأرض والمرافق الاقتصادية.
وكمنظمة تُعِدّ لتدمير الدولة – الوطن الحديثة في المشرق العربي والعالم الإسلامي برمته، للدولة الإسلامية ميزة على المؤسسات الأمنية العراقية الضعيفة والمخترَقة. فمنذ تفكيك هيكل الدولة البعثية بعد الاجتياح الأميركي عام 2003، فشلت النخبة السياسية العراقية في التركيز على بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وخاصة القوات العسكرية والأمنية، بطريقة مستقلة عن الاستقطاب السياسي-المذهبي في البلاد.
وبالرغم من الموافقة الشعبية على دستورين جديدين والمشاركة في سبع جولات انتخابية برلمانية ومحلية، تبقى الدولة العراقية تعاني من عدم القدرة على فرض سيطرتها على أحزاب سياسية بمصالح ضيقة – كما هي الحال مع الأحزاب الشيعية وميليشياتها – وقوى سياسية مستفيدة من تفكك الدولة، كما هي الحال مع الأكراد.
وبالإضافة إلى وقوع الدولة العراقية اليوم في أفخاخ الفساد والمحسوبيات والرشوات، فإنها تعاني من اختلاف وتنازُع الرؤى حول مستقبل العراق، إلى درجة يصعب معها التنبؤ بمصير العراق الواحد الموحد. فبينما تريد الأكثرية الشيعية الطاغية على مؤسسات الدولة ومرافقها تقوية الحكومة المركزية، ومن خلالها السيطرة على الأقاليم، يفضل الأكراد في الشمال والسنة حكومة مركزية ضعيفة تسمح بحكم ذاتي قوي داخل بنيان فدرالي للدولة. وبالحقيقة، يفضل الأكراد حداً أدنى من السلطة المركزية، في محاولاتهم إعداد أدوات الاستقلال المرجو، والذي حتى اليوم لم يحظَ (على الأقل في التوقيت الراهن) بموافقة دولية بسبب تأثير الدومينو المتوقع في تركيا وسوريا وإيران.
أما بالنسبة إلى السنّة، وبالرغم من تحفظهم التقليدي على إضعاف السلطة المركزية، فإنهم يرون أنفسهم شركاء في نظام سياسي ينكر عليهم المعاملة بالمثل في تأسيس الدولة-الوطن الجديدة. وهم لا يشعرون فقط بأن الطبقة السياسية الشيعية قد اغتصبت سلطة الدولة لنفسها، بل يرون أن الشركاء في الوطن يفضلون حشر إيران في مسائل العراق الداخلية، والأهم في قضية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. فالضباط الإيرانيون – بما فيهم الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني – يلعبون دوراً أساسياً على جبهات صلاح الدين والأنبار ويقودون الآلاف من مسلحي الحشد الشعبي المدعوم والممول إيرانياً. وهذا فيما ترفض بغداد تسليح وتدريب العشائر السنية للمشاركة في تلك المعارك نفسها.
ما العمل؟
بالرغم من الانتصارات التي حققها تنظيم داعش منذ 2014، تبقى الدولة الإسلامية مجرد مخلوق كان وجوده ممكناً بسبب أوضاع سابقة عليه، يمكن معالجتها دائماً وتغييرها بشكل إيجابي بالجهد الحثيث والإرادة والتخطيط الهادف. وبينما تتغير الظروف تدريجياً في سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وترغمه على اتخاذ قرار التركيز على العراق لوحده، يمكن للقيادة السياسية العراقية العمل على تقوية مؤسسات الدولة العراقية وتحسين الحوكمة والتخلي عن سياسات الإقصاء الطائفي.
فالوطن العراقي، بقيادة دولة غير منحازة تقودها حكومة راشدة، يجب أن تقود الحرب ضد الدولة الإسلامية على أراضيها. ويجب على المؤسسات العسكرية والأمنية احتكار استخدام القوة ومنع الميليشيات الطائفية من العمل باستقلالية عن المؤسسات الرسمية. فالدولة الحاضنة والقوية تؤمّن للعراق الدعم الإقليمي والدولي الذي سيبقى أساسياً في تأمين النصر على منظمة لا تخدم سوى أيديولوجية متطرفة وعدمية، وذلك خدمة للتنمية المستدامة والتقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
د.عماد حرب
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية