ليس جديداً ما يمكن استنتاجه أو توقعه من مواقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وإعلاناته المتكرّرة لمواقف تنحاز بالمطلق إلى جانب ما يطلق عليه تسمية “الحق التوراتي” غير التاريخي، ذاك الذي بلورت سردياته، واستندت إليه، الحركة الصهيونية، وكذ اليمينان، الأميركي والأوروبي، المتطرفان، والمسيحية الصهيونية واللاهوتية المسيحانية الإنجيلية، وكل التنظيمات الشعبوية اليمينية الآخذة بالاندماج والاصطفاف إلى جانب كيان يزعم أن له “حقاً” توراتياً مزعوماً ومتوهماً، اعتبر ويعتبر كل ما جرى سرقته والاستيلاء عليه من أراضٍ فلسطينية وعربية غنيمة احتلال استيطاني فاشي، يخضع لعنصرية الأبارتهايد الموصوفة؛ كما ذاك الذي شهدته الولايات المتحدة ذات زمن، حين استولى الغزاة البيض على أراضي الهنود الحمر، وساموهم سوء العذاب، وسنوا قانون إقصاء السود والملونين، وحين استولى الأوروبيون البيض على أراضي جنوب إفريقيا وسنوا قانون إقصاء الأفارقة واستعبدوهم، عبر قانون الأبارتهايد، وحين يقتفي اليوم آثارهم “صهاينة الوطن القومي التوراتي”، ومن أنشأوه وأيّدوه وساندوه، ليؤسس عنصريو الأبارتهايد الإسرائيليون قانون القومية العنصري في يوليو/ تموز 2018.
وفي شهادةٍ لا تخلو من اعتراف بجميل ترامب، وإدارته المنحازة التي لم يعد لها أي دور في محاولات التفاوض بشأن تسوية سياسية في المنطقة، أشاد رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بخطى ترامب الممالئة لإسرائيل، منفذاً كل التعهدات التي طلبتها منه، سواء بشأن مسألة الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، أو بفرض عقوباتٍ صارمة عليها، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والآن منحها صك اعترافٍ بسيادتها على الجولان. وذلك بزعم ما سماها “حماية أمن إسرائيل من التهديدات”، فيما ذهب نتنياهو إلى تثمين إعلان ترامب، واصفاً إياه بما سماها “عدالة تاريخية”؛ في وقت تتضح فيه كل شواهد الصراع في المنطقة ووقائعه، أنها بالنسبة لوجود إسرائيل في بلادنا لا تستند إلى أي عنصر تاريخي، بقدر ما يجرى وقد جرى سابقاً تزييف كل الوقائع التاريخية التي استندت إليها توراة التزوير
“نفذ ترامب كل التعهدات التي طلبتها منه إسرائيل، من الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، ومنحها صك اعترافٍ بسيادتها على الجولان” السياسي، تلك التي وجدت وتجد من يصادقها من دعاة التطبيع العرب، ممن لا يفقهون من التاريخ سوى ما استجد ويستجد من “أمر واقع”، في حين أنهم لا يعرفون من العدالة سوى اسمها، وأوهام إمكانية تحققها على أرض واقع، لم يعد يعكس سوى وقائع تزوير سياسي ولاهوتي، لا ينعش سوى عقلية الاحتلال والهيمنة لدى أصحاب الغايات الكولونيالية والأهداف الاستعمارية.
وبالعودة إلى صفعات عديدة باشرها ترامب وإدارته منذ دخوله البيت الأبيض، يمكن احتساب كامل الوعود الهمايونية التي باشرتها إدارته، كونها “صفقة القرن” التي أوقعت في حبائلها ليس أنظمة أو إدارات رسمية عربية، إقليمية أو دولية، بل بعض الفلسطينيين ممن استهوتهم رغائب السلطة، في قلب لوقائع استبدال وطن للفلسطينيين كل الفلسطينيين؛ والذي هو لهم بالأساس، بينما يمارس المستبدون والطغاة فيه، وعلى حدوده، كل موبقاتهم، مؤسسين سابقة تاريخية تنحو نحو التخلي عن “الأرض/ الوطن مقابل السلطة”. وذلك هو جوهر الحل الاستعماري الذي لازم المسألة الشرقية منذ عهود الاستعمار القديم.
وفي هذا السياق، فقد ذهب وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، نحو إيضاح أو عدم إيضاح ما تهدف إليه الخطة الأميركية، حين زعم إنها ستستند إلى ما سماها “الحقائق على الأرض”، متجاهلاً أو متغافلاً عن أن تلك الحقائق ليست أكثر من “أمر واقع” كولونيالي يتضاد مع تلك الحقائق، وإلا ما معنى تحويل القدس إلى عاصمة لكيان الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها، وفي ما يشبه “الهدايا الانتخابية” لنتنياهو ووضعها في رصيده، من قبيل الإعلان عن نقل الجولان إلى سيادة الاحتلال، والتلميح إلى إمكانية نقل الضفة الغربية ومستوطناتها، في توجه واضح إلى الإجهاز على “حل الدولتين” نهائياً، وتشجيع بعض الأطراف على بلورة حل “دويلة غزة الموسعة” في المستقبل القريب، بعد الإجهاز على كامل وعود التسوية التفاوضية التي أنعشتها اتفاقات أوسلو، وقتلتها تداعيات تلك الاتفاقات، بفعل مواقف اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وأخيراً بفعل تداخل التوافقات الأميركية/ الترامبية – الإسرائيلية – الإقليمية، وما أضحت تمهد له من صفعات، هي شكل الصفقة وجوهرها التصفوي للقضية الوطنية الفلسطينية.
وبذلك يقدم السلوك الكولونيالي الإسرائيلي، والدعم الأميركي اللامحدود لهذا الكيان، وتبني الغرب الاستعماري مسألة أن “إسرائيل الموقع المتقدم للولايات المتحدة والكولونياليات الغربية” في المنطقة، وما المواقف الأميركية أخيراً سوى التجسيد العملي للتماثل الأمني والسياسي بين إسرائيل والولايات المتحدة، فقد سلطت بعض أجهزة الإعلام والمحللين الإسرائيليين الضوء على خطوة الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، واعتبرتها بادرةً رمزيةً، وخطوة ذات مغزى لأمن إسرائيل ومكانتها الدولية، من جهة. ومن جهة أخرى، تعظيماً لصورة إسرائيل الردعية، كذراع استراتيجية للولايات المتحدة، في توظيف استثماري في ما يمكن أن تقدمه من خدمات للبنتاغون، بما يخدم السياسات الأميركية المستجدة، من دون وجود مزيد من القوات الأميركية في المنطقة.
هكذا وبعد الاعتراف بيهودية القدس، ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، يبدو أن أولى خطوات الإقرار بتطبيق ما تسمى خطة ترامب، إذا ما كانت هي المعني بها كونها صفقة العصر، أو صفعته الكبرى الأهم على وجوه الفلسطينيين
“أفشلت إسرائيل والكولونياليات الغربية كل تسويةٍ لا تقوم لمصلحة الأمن الإسرائيلي” والعرب، وهي، في كل الأحوال، خطة أميركية – إسرائيلية، تتم محاولة فرضها قسراً وبالإكراه على الطرف الفلسطيني وعلى الأطراف العربية الإقليمية المعنية بتمويلها، في الوقت الذي لا يطلب فيه ترامب من نتنياهو أن يفعل شيئاً، سوى انتظار أن يأتي الحل السياسي من أطرافٍ لا تؤمن أصلاً بالحلول السياسية، بقدر ما تريد لـ “الأمر الواقع” أن يكون بديلاً للواقع، وبما يتعاكس مع أي حل سياسي أو تسوية سياسية لا تتوفر أركانها، بعدما أفشلت إسرائيل والكولونياليات الغربية كل تسويةٍ لا تقوم لمصلحة الأمن الإسرائيلي، ولاستراتيجيات الرأسمال الاحتكاري المتعدد الجنسيات وبيروقراطيات الأوليغارشيات الحاكمة.
من هنا، يمكن فهم ما أشار إليه نتنياهو أن الرئيس دونالد ترامب “صنع التاريخ مرة أخرى بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان”، في سياق الفهم نفسه في ما يمكن اعتبار ما أدته بريطانيا عبر وعد بلفور من دور صناعة تاريخ توراتي زائف لإسرائيل فوق أرض الوطن الفلسطيني. ولهذا لم يبق من فرصة للتوسط لإيجاد حل سياسي للقضية الفلسطينية، بعد أن فقدت إدارة ترامب، وكل الإدارات الأوروبية شرقاً وغرباً، الفرصة والإمكانية الفعلية للتوسط بين طرفي الصراع، لا سيما وأن إدارة ترامب ما تني ترسل إشارات قوية تترك آثاراً هدّامة ومدمرة لأي فرصة تساهم في إيجاد الحل السياسي المنشود لأسس الصراع الدامي في هذه المنطقة من العالم، وتقدّم الدعم الأعمى الهائل لإسرائيل قاعدة استراتيجية متقدمة، دفاعاً عن الأمن الاستراتيجي الغربي، باسم الدفاع عن الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، وتماهيهما الكولونيالي الذي أضحى أمراً واقعاً واضحاً وفاقعاً، يستوجب مواجهة مصيرية، لا دفن الرؤوس في الرمال.
العربي الجديد