تنظر شريحة كبيرة من السودانيين بإرتياح إلى حزمة المساعدات المشتركة، التي أعلنت السعودية والإمارات، الأحد، تقديمها إلى الخرطوم، وتعتبرها بادرة جيدة على ما يمكن أن يتلقاه السودان من دعم اقتصادي وتشجيع سياسي الفترة المقبلة، بما يخفف المعاناة عن كاهل المواطنين الذين انتفضوا على مدار أربعة أشهر على نظام لم يكتف بالحديد والنار في الحكم، لكنه ضاعف معاناتهم المادية، ولم يترك هامشا لنجاح مراوغاته السياسية.
أخطر أنواع الانتفاضات تأتي من رحم أسباب اقتصادية، وأشدها خطورة تجلب معها مكونات سياسية، خلف الجوانب الاقتصادية. وحال السودان من النوع الأخير الذي فجرت أزماته الحياتية والمعيشية طوفانا من المشكلات، ولم يتمكن نظام الحكم السابق من تجاوزها باللين والمسكنات حينا والعصا في معظم الأحيان.
يمثل علاج الأصل (الاقتصاد) مقدمة لعلاج الفرع (السياسة)، لكن ما قام به الرئيس المعزول عمر حسن البشير، افتقر إلى الأدوات اللازمة لعلاج الأصل أو الفرع، فكان من الطبيعي أن تقود التظاهرات التي اندلعت في 19 ديسمبر الماضي لتصاعد الأزمات الاقتصادية إلى الإطاحة به، والتصميم على تجفيف منابع حلفائه في السلطة.
أخفق النظام السابق في نجدة الاقتصاد المتهاوي في البلاد، ولم يتمكن من تقديم أفكار تجعل المواطنين يمهلونه فرصة لتصحيح الأخطاء، بعد ثلاثين عاما من إدمان الفشل، ولم يستطع الحصول على وسائل تخفف حدة الآلام التي كانت معالمها ظاهرة منذ سنوات، ولم يتحرك المسؤولون بجدية لعلاجها، مع أن ملامحها لم تكن خافية على أحد.
اكتفى البشير بالبحث في الشق المعنوي في أزمة بحاجة ملحة إلى حلول مادية، وقام بإقالة الحكومة وإدخال تعديلات على عدد من الحقائب الوزارية وتغيير في حكام الولايات، في خطوات منحت الشق الأمني أولوية كبيرة، ولم تتطرق بجدية إلى الجوانب الاقتصادية، فضلا عن السياسية، وانهمك معظمها في الحيل والمناورات التي تصورت الخرطوم أنها قادرة على إطفاء نيران مشكلات متراكمة.
تنشغل النخبة السودانية الآن بوضع حلول عاجلة للأزمة السياسية، باعتبارها المقدمة التي أفضت إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة، وهذا حقها، لأن ممارسات نظام البشير افتقرت للرؤية الواضحة والرشادة اللازمة، وكأنها فوجئت بأنها خسرت نحو 75 بالمئة من عائدات النفط، عقب استقلال جنوب السودان عام 2011، ولم تفكر في إيجاد بدائل لها.
يستغرق التركيز على وضع أفكار صائبة للأزمة السياسية وقتا، بينما المعاناة المعيشية الملحة تمضي وتنخر في جسد قطاعات كبيرة من المواطنين، فشريحة واسعة منهم خرجوا للاحتجاج والاعتصام لأسباب اقتصادية أصلا، وهو ما يجب الالتفات إليه بالتزامن مع الحوارات الجارية لترتيب الأوضاع العامة وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية.
السودان يحتاج إلى استعادة جزء من عافيته المادية لتوفير انتقال سياسي سلس، الأمر الذي يعمل عليه المجلس الانتقالي، وتنتبه إليه الدول التي سبب لها نظام البشير إزعاجا إقليميا
ينهمك السودانيون في فك ألغاز المستويات العليا والدنيا من بقايا البشير وحزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وقد يحتاجون إلى وقت طويل، بحكم شغفهم بالأحزاب والنقاشات والنظريات السياسية، ومعاناتهم مع القوى التي سلبت حقوقهم وحرمتهم من الحياة بصورة طبيعة، وضيعت الكثير من مقدرات بلدهم.
منح البعد الاقتصادي أولوية حاليا مسألة حيوية للاستقرار، لأن فلول النظام السابق وكوارده في المؤسسات المختلفة، يعولون على دخول البلاد حالة من الفوضى لعدم القدرة على سد أفواه الجوعى والبسطاء، وصعوبة الحصول على المشتقات النفطية، وارتفاع الأسعار، وجفاف الموارد التي تساعد على علاج المرضى، وهؤلاء يمثلون فئة عريضة في المجتمع، قد لا تستطيع تحمل المعاناة.
تراهن دوائر محسوبة على النظام السابق على عدم قدرة المجلس العسكري الانتقالي على الحصول على مساعدات اقتصادية عاجلة، وترى أن صبر المواطنين عليه لن يطول، وتعتقد أن الشكوك التي تراود بعض الدول بشأن الميول السياسية للفريق أول عبدالفتاح البرهان، قائد المجلس الانتقالي، أو تكرار الحديث عن هيمنة المؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم، من العوامل التي تعوق تلقي مساعدات، ما يعني استمرار الغليان في الشارع.
لكن السعودية والإمارات فاجأتا السودانيين، الأحد، بتقديم حزمة عاجلة من المساعدات، قيمتها ثلاثة مليارات دولار، كطوق للنجاة من الأزمة الاقتصادية الحادة، وجاء الجزء الأكبر منها في صورة غذاء ودواء ومشتقات نفطية، ما يعني أن المواطنين سوف يستشعرون تحسنا في حالهم وأحوالهم سريعا. تقديم هذه الحزمة مبكرا معناه إمكانية حصول السودان الجديد على المزيد من الدولتين أو غيرهما، وأن تقلبات النظام السابق وقفت حائلا دون وصول الكثير من دول مختلفة، وهي رسالة سوف تعزز تصميم المعتصمين على التخلص تماما من ذيول نظام البشير، لأنه أدخل البلاد في خلافات ومناوشات، حرمته من تلقي مساعدات وفيرة من دول صديقة.
أدت توجهات حزب المؤتمر الوطني إلى الدخول في مشكلات عديدة ووعود كاذبة، وقادت إلى حرمان السودان من الاستفادة جيدا من موارده المختلفة، وفرض عقوبات اقتصادية عليه من قبل الولايات المتحدة مثلا، والتي يمكن التفكير في رفعها خلال الفترة المقبلة، طالما انتهى السبب الذي أدى إليها جراء سياسات الخرطوم المرتبكة، والتي وضعت السودان في كفة واحدة مع مؤيدي المتشددين، وهو ما وعدت به واشنطن خلال الأيام الماضية.
يحتاج السودان إلى استعادة جزء كبير من عافيته المادية كي يتسنى توفير انتقال سياسي ناعم له، الأمر الذي يعمل عليه المجلس الانتقالي حاليا، وتنتبه إليه الدول التي سبب لها نظام البشير إزعاجا إقليميا، وهي تعمل على مساندة المجلس الانتقالي ليضع السودان قدمه على عتبات الهدوء والاستقرار في المنطقة، وغلق الباب أمام محاولات زعزعته عبر استغلال المشكلات الاقتصادية، وتوظيفها لدواع أمنية وسياسية.
واجهت الدولة المصرية أزمة قريبة من ذلك، عندما خرجت مظاهرات شعبية في 30 يونيو 2013، بمساندة المؤسسة العسكرية، على إثرها سقط حكم جماعة الإخوان المسلمين، وبعدها جاء عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا كرئيس لمرحلة انتقالية لمدة عام، اكتشف فيها الرجل خواء الخزانة المصرية، وصعوبة التحديات التي وقف عليها، وتهدد الأمن والاستقرار، وكان الانهماك في حل المعضلة الاقتصادية له الأولوية.
مثلت حزمة المساعدات الكبيرة التي تلقتها القاهرة من الدول الخليجية (السعودية والإمارات تحديدا)، عقب ثورة يونيو، أحد أهم المصادر التي أتاحت لعدلي منصور، وبعده الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، مواجهة الأزمة الاقتصادية، ووفرت للجيش قدرة على مواجهة الإرهاب في سيناء، والعبور بالبلاد إلى بر الأمان.
بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف مع الأوضاع السياسية حاليا في مصر، فقد مثل تحسين الأحوال المعيشية والأمنية للمواطنين مطلبا عاجلا في حينه، ولو جرى التأخير في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية والتخلف عن وضع البلاد على طريق الإصلاح، لكانت هناك صعوبة في التخلص من التنظيمات الإرهابية وما يمثله المتطرفون من تهديد حقيقي على مصر.
بالطبع لكل دولة خصوصية، وربما يكون السودان أكثر حظا في امتلاك أحزاب وقيادات سياسية عفية، من مصر، لكنه أيضا قد تكون أوضاعه الاقتصادية أشد صعوبة، ما يفرض عدم التهاون أو التأخر في علاجها من جذورها، فهي ركن أساسي للاستقرار في بلد استنزفت الأحزاب المتناقضة والتوجهات المتضاربة جزءا كبيرا من رصيده في الحفاظ على موارده، وهو البلد الذي عرف بأنه “سلة غذاء العالم العربي”.
يحتاج السودان إلى وقوف على قدميه ويشعر المواطنون أن ثمة تغييرا ملموسا في معيشتهم، ما يوفر غطاء جيدا للمجلس الانتقالي، ورسم معالم الطريق الذي يسلكه لتسليم السلطة لحكومة مدنية، ويؤكد حكمة القوى الراغبة في نقل البلاد إلى مربع آخر، يقوم على المساواة والمواطنة والاستقرار، فغالبية أزمات البلاد تبدأ وتنتهي عند المكونات الاقتصادية، والحد من تفاقمها سوف يفضي إلى الخروج من مستنقع استخدمه النظام السابق للهروب من الاستحقاقات السياسية، التي تفتح أفقا واسعا لاستيعاب جميع القوى السودانية.
العرب