تأتي ذكرى النكبة 71 لهذا العام، محملة بالمعاني الروحية والكفاحية المقاومة للفلسطينيين أصحاب القضية العادلة كما إخوانهم العرب، وللعدو الصهيوني في بعض الجوانب. فللأخير وكافة قياداته السياسية والعسكرية، تعني الذكرى، استمرار اللايقين من بقاء كيانهم إلى عمر 100 عام، مثلما عبّر عن ذلك نتنياهو، في لقائه في بيته مع الحاخامات، عندما قال بالنص «سنحاول الوصول للاحتفال بإسرائيل إلى عيدها المئوي، وأن لا نكرر انهيار مملكة حشمونئيم» ـ مملكة يهودية امتدت 80 عاما وانهارت.
المسألة الثانية، أن إسرائيل بعدوانيتها الفاشية الملازمة لوجودها، وبتناقضاتها الداخلية العديدة الإثنية، مثلا، في تعريف من هو اليهودي، أو في سيطرة مؤسستيها الدينية والعسكرية على وجودها الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، وبفاشيتها، فإنها تحمل بذور فنائها. علينا كفلسطينيين وعرب إدراك هذا، بمزيد من قراءة العدو واستغلال تناقضاته الداخلية بشكل مناسب، ما سيسرّع حتما في هزيمته. في ذكرى النكبة71، يمكن ملاحظة توسع دائرة تطبيع النظام الرسمي العربي مع الكيان، وصولاً لحدود التحالف معه. كذلك فإن الحقيقة الناصعة، أنه كلما مضى الزمن على وجود إسرائيل، يزداد ارتباطها الصهيوني العضوي الآثم مع المشروع الاستعماري الكولونيالي العالمي.
على الصعيد الفلسطيني والعربي، أثبتت التجارب، كارثية الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل على أمتنا وشعبنا، وخطأ المراهنة على إمكانية جنوح الكيان للسلام! واستحالة إمكانية تحقيق قبوله «حلّ الدولتين»، وهو الذي لن يتخطى حدود دائرة العدوان، واستمرارالاغتصاب والإحلال والتوسع المستمر على حساب الوطن العربي. الكيان لم يرسّم حدود دولته حتى اللحظة، ليسأل كلّ عربي وفلسطيني نفسه: لماذا؟ نعم، بعض النظام الرسمي العربي قصير النظر، ومنعدم الرؤية الاستراتيجية، يعيش أوهام البقاء التاريخي لنظامه، ولو على حساب احتلال جزء من أراضيه، حتى لو تحت حماية إسرائيل والسادة الأمريكان، لذا يدفع ثمن هذه الحماية (مثلما عايرَهم ترامب)، مثل هذا النظام هو خير حليف مساند للكيان، وأطرافه قابلة للتعامل مع ما يسمى بـ»صفقة القرن» والاعتراف ببنودها، وتوطين الفلسطينيين الموجودين في بلدانه، والضغط على السلطتين الفلسطينيتين، للقبول بها. «صفقة القرن» سيسقطها شعبنا، مثلما أسقط 132 مشروعا تصفويا منذ عام 1947 حتى اللحظة. العرب كما وصفتهم الكاتبة البريطانية إيتيل مينون مؤلفة كتاب «الطريق إلى بئر السبع» هم «أسوأ المحامين عن أعدل قضية». بالنسبة للدول الغربية ، فمع تزحزح رؤيتها قليلاً حول الحقوق الفلسطينية، مقارنة مع الموقف الأمريكي، لكنها لن تجرؤ على تجاوزه عمليا.
أما المعاني الروحية والكفاحية المقاومة لشعبنا، فالمقصود بها، مدى تعاظم ارتباط شعبنا بوطنه الفلسطيني التاريخي كاملاً، روحيا ووجدانيا وعمليا وانتماء أصيلاً. إنه ارتباط بالهوية الفلسطينية المقاومة لكل أشكال التعسف، ارتباط بالقرية، بالحاكورة، بالمارس (المزرعة). هذا أسقط ويسقط مقولة غولدا مائير «الكبار يموتون، والصغار ينسون» فالحفيد الفلسطيني أكثر ارتباطا بوطنه، أضعاف ارتباط جدّه. هذه العوامل الوجدانية الروحيّة، هي الأسس التي تقف وراء كلّ أشكال الصمود الفلسطيني، استشهاداً، وقوعاً في الأسر ومجابهة السجّان فيه، إصابةً بعاهات وجروح في المواجهات القتالية المباشرة وغير المباشرة مع العدو، كما حصل في العدوان الأخير على قطاع غزة، صمودا في مخيمات الوطن والشتات، إصرارا على الحياة والنضال، رغم كل المعاناة، ومحاولات تذويب الهوية الفلسطينية، بأساليب رديئة، مغرقة في قبحها واستباحتها لأدنى وأبسط حقوق الإنسان (تعذيب، عدم إدخال للبلدان، نوم في المطارات لأيام، بل أحيانا لأشهر..).
على صعيد آخر، تنادت بعض القوى والفصائل والأحزاب العربية (بما فيها الفلسطينية) إلى اجتماع في الرباط لتشكيل كتلة تاريخية عربية ، في الرّد على المؤامرات التي تستهدف بعض الأقطار العربية، فوفقا للزعيم اليساري محمد بنسعيد آيت، فإن الحركات الاحتجاجية والثورية في العالم العربي والمغاربي تحديداً، خصوصا التي تشهدها الجزائر والسودان، في حاجة إلى الحماية من قبل المساهمين فيها، لتجنب تحريفها، كما وقع في عدد من البلدان كليبيا والعراق ومصر وغيرها. مضيفا في لقاء نظمته مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله، حول شعار «في الحاجة إلى الكتلة التاريخية»، فمن وجهة نظره، أن التكتل في هذه المرحلة، يحتاج إلى مد الجسور وتقويتها بين الأجيال، بالنظر للأهمية التي تلعبها جميع الشرائح وعلى رأسها الشباب، في إنجاح العديد من المبادرات، وكذا التأثير في القضايا الأساسية. وذكّر بالكتلة الديمقراطية (التاريخية) التي ضمت كل أحزاب المغرب، والدور الذي لعبته هذه الكتلة في مراحل تاريخية معينة، قبل أن تنهار لاحقا. في السياق نفسه تحدث المؤتمرون الآخرون الأفاضل.
«صفقة القرن» سيسقطها شعبنا، مثلما أسقط 132 مشروعا تصفويا منذ عام 1947 حتى اللحظة
ومع التقدير الكبير للمؤتمر وحضوره، فإن المتتبع لما دار فيه وصدر عنه، يخرج باستنتاج، أنه كان مؤتمرا عربيا خطابيا كلاسيكيا تقليديا، تسابق فيه المجتمعون على تشخيص الحالة العربية، والدعوة إلى أهمية، وضرورة مواجهة المؤامرات، بدون الوصول إلى صيغ عملية، علمية واقعية، تتعامل فعليا مع مجابهة مخاطر الواقع. المؤتمر كان محاولة لتعريب مفهوم انبثق من واقع إيطالي قديم نسبيا، حيث البلد كان منقسماً بين شمال إيطالي مزدهر وجنوب يعيش بقايا القرون الوسطى، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، «التي هيأت نتائجها فعليا للحرب الكونية الثانية». لقد عانت إيطاليا من تداعيات الحرب بحكم مشاركتها غير المباشرة فيها
(فقد كانت من ضمن الحلف الثلاثي، مع الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، إلا أنها لم تنضم معهما في حلف دول المركز)، إضافة إلى ظهور الفاشية على يد موسولويني الذي تسلم الحكم عام 1922. لذا قام أنطونيو غرامشي المفكر السياسي وقائد الحزب الشيوعي الإيطالي آنذاك، بمبادرة تهدف إلى خلق وحدة وطنية بين كل مكوّنات المجتمع المدني، بشكل يوحّد الكل في قوة واحدة، تتجاوز التناقضات الأيديولوجية والطبقية والحزبية في مواجهة الأزمة، أي خلق بنية جديدة تستبعد البنية القديمة، بل تتشكل من رحمها، لكن في صورة مغايرة تماما، وهو ما عبّر عنه غرامشي بمفهوم «الكتلة التاريخية».
حقيقة الأمر أن غرامشي في اقتراحه المذكور استعاد في تحليله للوضع الإيطالي، ماكيافيللي وماركس وروّاد العقد الاجتماعي، توماس ھوبز، جون لوك وجان جاك روسو وغيرهم، بالتالي، فإن بعض الأحزاب اليسارية لا تتفق مع مفهومه المعني هذا.
لقد اعتمد هذا الفيلسوف أيضا، على النزعة الفردانية، باعتبار الفرد هو القوة الأساسية في تشكيل الحزب والكتلة التاريخية. لهذا يتوجب، وقبل إنشاء الكتلة التاريخية العربية، بحث مفاهيم غرامشي في العلاقة بين الأزمة، الأحزاب، الثقافة (المثقف العضوي)، الصراع الطبقي والأيديولوجي، وغيرها من العوامل كالهيمنة الحزبية (على سبيل المثال لا الحصر) من جهة، والكتلة التاريخية بمفهوم غرامشي من جهة أخرى. فمثلما ذكرنا سابقاً، أن ظروف إيطاليا تختلف واقعا وزمانا ومكانا، عن ظروف الأقطار العربية المتعددة الفروقات، كجوهر النظام الحاكم في كلّ بلد، وطبيعة القوى المستغِلِّة فيه، كما المستغَلّة، والأساليب النضالية فيها أيضاً. تحدث الجابري، في ندوة له، عن اليسار واليمين ودورهما في الكتلة التاريخية. وخلص نهايةً إلى نتيجة مفادها، أن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي: أولا: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها، لذا فهي كثيرة ومتنوعة. كما أهمية فتح الباب أمام التيارات الإسلامية، والقوى الاقتصادية، وجميع العناصر الأخرى الفاعلة في المجتمع للدخول في الكتلة. بالطبع، شهدت المنطقة العربية بمجملها، تغييرات كبيرة جوهراً وموضوعا وذاتا، في طبيعة القوى والنخب، بعد أن طرح الجابري مشروعه من حيث التغيّر في طبيعة الأنظمة الحاكمة وغيره من العوامل، ضمن عملية الاستغلال. كما أهمل رحمه الله تداعيات وجود واستمرارية بقاء المشروع الصهيوني في المنطقة، وتأثير تداعياته المباشرة وغير المباشرة على عموم الدول العربية، بما فيها دول المغرب العربي.
نخلص إلى النتيجة الأهم: أهمية الحاجة إلى بناء كتلة تاريخية في البلد العربي الواحد بدايةً، قائمة على خصوصياته المختلفة عن البلدان الأخرى، ثم التنسيق بين كل هذه الكتل لإيجاد الكتلة العربية الواحدة. الأخذ بعين الاعتبار، أن المشروع الصهيوني (إسرائيل) هو أحد أهم أسباب إشكاليات الدولة العربية الحديثة، والعالم العربي مجتمعا، وأهمية مجابهته ككل، وتداعيات وجوده على البلد العربي المعني، فأخطار الكيان قائمة على الدول العربية من المحيط إلى الخليج، عقد مؤتمر موسّع لا تحضره فقط النخب الحزبية العربية، التي اعتادت حضور كل المؤتمرات، بل أيضا المفكرون الجماهيريون الحقيقيون العرب، لتحديد مفهوم الكتلة التاريخية المحلية للبلد أولا، على طريق تأسيس الكتلة التاريخية العربية الواحدة، الابتعاد عن الصيغ المستهلكَة والفذلكات الكلامية الخطابية الإنشائية، ففي كلّ يوم نعيش جديداً: ظروفا وواقعاً ومتغيرات وأشكال تآمر وصفقات تصفوية، لذا، يتوجب إدراك هذا، تحليلا وتشخيصا وفعلا وانتقاءً لآليات نضال ومواجهة جديدين، متوائمة مع طبيعة المتغيرات والمتغيرات في أشكال التآمر الجديدة.
القدس العربي