بغداد – لم يعد الكثير من العراقيين يتحدث في السياسة، خلال أي تجمع، كما كان مألوفا في السنوات الماضية، وذلك بعدما تسربت مشاعر اليأس من إمكانية التغيير، إلى قطاع عريض من سكان البلاد.
وخلال الأعوام الماضية، كانت سيارات النقل الجماعي في بغداد، أشبه بصالونات السياسة، إذ عادة ما تشهد نقاشات حامية بشأن أداء الحكومة والأحزاب، لكن الكثير منها يبدو هادئا الآن، أو أنها تنشغل بأحاديث الطقس وكرة القدم في أفضل الأحوال.
ولم تعد التطورات السياسية، تثير اهتمام المتابعين، الذين يبدو أنهم اعتادوا على أنباء فشل البرلمان في تمرير وزير ما، أو خطة الحكومة لمكافحة الفساد في مؤسسة ما، لعلمهم بأن الأحزاب السياسية اعتادت الاهتمام بمصالحها، على حساب مصالح السكان.
وباتت مصطلحات من قبيل “مكافحة الفساد” و”بناء الدولة” و”البرنامج الحكومي”، مثيرة للسخرية، في أوساط المتابعين، فيما تتزايد عملية تداول مصطلحات من مثل “الدولة العميقة” و”العمالة للخارج”، في مؤشر على تراجع الإيمان بالقدرة على تغيير الوضع القائم.
وبالرغم من أن درجات الحرارة في العاصمة العراقية، تتجاوز في معدلها العام هذه الأيام، حاجز الـ45 درجة مئوية، في مواجهة تجهيز متذبذب بالطاقة الكهربائية الحكومية، فإن الصيف الحالي يبدو هادئا حتى الآن، قياسا بالمواسم السابقة، في ما يتعلق بالتظاهرات الشعبية، التي كانت تخرج للمطالبة بالخدمات.
ويقر الكثير من النشطاء المعروفين بالمساهمة في تحشيد المتظاهرين خلال الأعوام الماضية، بعجزهم عن اجتذاب المحتجين خلال الصيف الجاري، بسبب حالة اليأس العامة.
وانعكست حالة اللامبالاة العامة، على اهتمام الناس بالبرامج السياسية التي تبثها المحطات الفضائية كذلك، إذ تقتصر نجومية معظم الإعلاميين الذين يقدمون هذه البرامج، على الأوساط السياسية فحسب، ولا تتعداها إلى الأوساط الشعبية.
ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي في العراق، تعج بانتقادات المدونين الغاضبة من الأداء الحكومي والبرلماني، إلا أن معظم هذه الانتقادات تنطلق من تجربة فردية، كأن يروي فرد ما قصة مراجعته مؤسسة حكومية ما لإنجاز معاملة، وما يقاسيه قبل اتمام مهمته.
وفي العديد من هذه الحالات، يتشارك المدونون في توجيه مجموعة شتائم لأركان الطبقة السياسية، مع ملاحظة تحاشي توجيه النقد للرموز الدينية أو الميليشياوية، لاسيما من قبل الذين يعيشون داخل البلاد، خشية الملاحقة.
ويعتقد مراقبون أن هذا التحول السلبي الواضح في المزاج الشعبي، ربما يكرر حضوره القوي خلال الممارسات الانتخابية المقبلة في البلاد، ولاسيما الانتخابات المحلية، التي لم يحدد موعدها بعد، وسط توقعات بأنها ستجرى صيف العام القادم.
وشكلت المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات العامة صيف العام الماضي، مؤشرا واضحا على تحول المزاج الشعبي العراقي نحو اليأس من الإصلاح السياسي، بالرغم من أن قوائم عديدة رفعت شعار “الإصلاح”.
ويقول دعاة المقاطعة الانتخابية، إنهم لا يريدون إضفاء الشرعية على نظام سياسي فاسد، من خلال الاقتراع، لكنهم في الوقت نفسه لا يقدمون بديلا.
وبينما راهن كثيرون على الفرص التي يمكن أن توفرها حركة احتجاج شعبي، لاسيما من خلال الضغط على النظام السياسي لإصلاح نفسه، فإن المشاركة في التظاهرات كانت ضعيفة، وهي رسالة تلقتها القوى السياسية العراقية بارتياح.
وعول نشطاء على الصيف الجاري، لاستنهاض حركة الاحتجاج الشعبي، في ظل استمرار العجز الحكومي في ملف الخدمات، ولاسيما الكهرباء، لكن المؤشرات حتى الآن، توضح مدى حالة اليأس لدى السكان من أثر أي فعل داخلي في صناعة التغيير. لذلك، يلقى حديث “الانقلاب” الكثير من الآذان الصاغية، وسط انعدام أي مؤشرات بشأنه.
وتدرك الأوساط الشعبية في العراق، أن القوات المسلحة عاجزة حاليا عن الدفع بضباط يمكنهم تغيير الأوضاع بانقلاب عسكري داخلي، وتدرك أيضا أن تجربة التغيير من الخارج، لا يمكن أن تأتي بجديد، بعد الانهيار الذي سببه الغزو الأميركي للبلاد العام 2003.
ويصف مراقب سياسي عراقي عزوف العراقيين عن الحديث في السياسة بالمظهر الإيجابي، وقال “بل هو تعبير عن شعور بعقم الإرادة الشعبية التي باتت مستلبة من قبل جهات عديدة، تقف في مقدمتها المؤسسة الدينية التي لم يتسع نفوذها في تاريخ العراق مثلما هو عليه الآن”.
وفضلا عن سلطتها المستلهمة من تأثير المرويات “الدينية” التي غالبا ما تكون طائفية على البسطاء من الناس فإنها تكتسب جزءا أساسيا من قوتها من سيطرة الميليشيات المسلحة ذات الطابع الديني على الشارع وعلى المؤسسات ذات الطابع الخدمي، حيث التماس المباشر مع شؤون الحياة اليومية.
ويشير المراقب في تصريح لـ”العرب” إلى أن العراقيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في الماضي فقهاء في علم السياسة تخلوا عن تلك الصفة بعد أن هزمتهم الأحداث وصارت وقائع المشهد السياسي تضعهم دائما في مواجهة الخيارات الأسوأ، وهو ما لا يتدخل في باب التكهنات.
وبرغم ضعف الطبقة السياسية فإن إمكانية تغييرها تبدو أمرا صعبا في ظل وقوع العراق في منطقة التجاذب بين الولايات المتحدة وإيران وهما قوتان توفران لتلك الطبقة الحماية الكفيلة باستمرار عمليات فسادها، وهو فساد صار مكشوفا بطريقة جعلت من تطبيعه جزءا من عملية ترويض سياسي دفعت بالمجتمع العراقي إلى اليأس من نفسه ومن قدرته على أن تكون مساهمته مجدية.
ويضيف المراقب أن العراقيين جربوا أن يستعملوا سلبيتهم سلاحا ضد الطبقة السياسية الجاهزة حين امتنعوا عن المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة، غير أن تلك الوسيلة لم تنفعهم في شيء واكتشفوا أن تلك الطبقة تتكاثر عن طريق الانشطار، بحيث ولد سياسيون جدد من رحم العملية السياسية هم أسوأ من السياسيين الذين صاروا بمثابة أوصياء على النظام.
العرب