مر عامان على تحرير مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى شمالي العراق، بعد ثلاث سنوات عاشتها تحت سطوة تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” الإرهابي.
في 10 يونيو/ حزيران 2014، سيطر تنظيم الدولة “داعش” على الموصل، ثاني أكبر مدينة عراقية مساحًة بعد العاصمة بغداد، إثر انسحاب قوات الجيش والشرطة من المدينة.
بعدها، سقطت نينوى بالكامل في قبضة التنظيم، ثم أطلقت الحكومة في 17 أكتوبر/ تشرين أول 2016، عملية عسكرية قادت إلى إعلان تحرير الموصل في 10 يوليو/ تموز من العام التالي.
إعمار بالجهود الذاتية
القادم اليوم إلى الضفة الشرقية لنهر دجلة، الذي يشطر الموصل إلى نصفين، لن يلاحظ بسهولة أن حربًا دارت هنا، رغم انحناءات جسورها؛ بسبب القصف خلال الحرب على تنظيم “داعش”.
فالإعمار في الجانب الشرقي على قدم وساق، لكن ليس بتمويل حكومي، وإنما بجهود ذاتية من سكان أطلقوا مشاريعهم الخاصة.
في الجانب الشرقي، يزاول حميد علي (47 عامًا) عمله، بعد أن باع منزله في الجانب الغربي، ليسكن ويفتتح مطعمًا لتقديم “الكباب”.
يقول “علي” إن “الحياة هنا في الجانب الشرقي أفضل بكثير من الجانب الغربي، والعمل أفضل وحركة السكان أوسع”.
ويضيف: “ولهذا بعتُ منزلي لأجد لي مشروعًا يتناسب مع المبلغ الذي لدي، واستأجرت منزلًا في الجانب الشرقي”.
ويتابع الرجل: “لا تجد هنا ما يذكرك بتلك الحرب الأليمة.. الحياة هنا تسير طبيعية حتى ساعات متأخرة من الليل.. تأقلمنا على العيش هنا، وأطفالي وزوجتي لا يرغبون بالعودة إلى الضفة الغربية؛ فهي تذكرهم بالكابوس”.
“هنا الحياة أكثر صخبًا وحركة وأكثر حداثًة”، يسترسل “علي”، وهو ينفث دخان سيجارته بقوة من فمه، متحسرًا على ماضيه.
ومع زيادة الكثافة السكانية في الضفة الشرقية، ارتفعت بدلات الإيجار وأسعار العقارات، حتى أن ثمن متر العقار بمناطق راقية بات يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين دينار (بين 800 و2500 دولار أمريكي).
وتتراوح أسعار المنازل في المناطق الراقية بين 200 مليون دينار (160 ألف دولار) وأكثر من مليار دينار (مليون دولار).
روائح جثث متفسخة
على الجانب الآخر، فإن من يمر بالضفة الغربية من الموصل، وتحديدًا مركزها في منطقة الموصل القديمة، يكاد يجزم بأن الحرب انتهت أمس فقط.
هنا، يعيش السكان بين الدمار ومخلفات حربية، وتنبعث من بين الركام روائح جثث متفسخة.
بحسب بلدية الموصل، تم انتشال خمسة آلاف جثة من تحت أنقاض المدينة القديمة فقط، منها 2700 جثة لمدنيين والبقية لمسلحي تنظيم الدولة “داعش” وعائلاتهم، الذين تحصنوا بالمنطقة.
ويرى عراقيون أنه كان هناك تعمد وقسوة مفرطة خلال الحرب على تنظيم “داعش” في تلك المناطق.
وفق الأمم المتحدة، فإن 12 ألف وحدة سكنية دُمرت وتضررت من أصل 12 ألفًا و500 وحدة في المنطقة القديمة من الموصل.
وما يزال أغلب سكان تلك المناطق لا يرغبون بالعودة إلى منازلهم؛ لأنها تفتقر لأبسط مستلزمات الحياة.
منازل متضررة
ذاكر محمد، وهو من سكان منطقة “النبي جرجيس” في المنطقة القديمة، يقطن في منزله المتضرر من الحرب.
واضطر “ذاكر الصباغ”، كما يسميه الأهالي لمزاولته مهنة الصباغة لأكثر من عشرين عامًا، للعودة إلى المنزل؛ بسبب مأساة العيش في مخيمات النزوح من جهة، وعدم قدرته ماليًا على الانتقال إلى سكن آخر.
وبعد أن أنفق ما بحوزته من مال لإعادة ترميم بيته المتضرر، ينتظر ذاكر إطلاق مبالغ التعويضات، ليتمكن من إعادة افتتاح محله في “شارع الفاروق” التجاري.
هذا الشارع كان بمثابة شريان الموصل، لكن الحرب حوّلته إلى ركام، ولا تكاد ترى عند مرورك فيه إلا أنقاض مبانٍ مدمرة.
لا تعويضات حتى الآن
رغم مرور عامين على تحرير الموصل، لم تطلق الحكومة الاتحادية في بغداد أي مبالغ لتعويض المتضررين.
وهو ما أكده محافظ نينوى الجديد، منصور المرعيد، الذي كشف عن الحصول على موافقات من بغداد لحسم ملف التعويضات، وإطلاق جميع المبالغ، بحلول عام 2020.
غياب الإعمار، وضعف الخدمات، وتأخر التعويضات، دفع الكثير من الأهالي إلى بيع منازلهم المدمرة، والانتقال إلى مناطق أخرى.
وهو ما فعله مثنى الحمداني (62 عامًا)، عندما ترك منطقة القليعات القديمة، المطلة على نهر دجلة، وانتقل إلى مسكن بسيط اشتراه في منطقة أخرى أقل تضررًا.
شعور بالغصّة يراود الحمداني، لتركه منطقته التي ولد فيها، لانعدام سبل الحياة، وهي “غصة تتضاعف مع تداول معلومات تفيد بشراء جهات مجهولة مساحات واسعة في المنطقة القديمة”، بحسب الحمداني.
وكثُر مؤخرًا الحديث عن عمليات تغيير ديموغرافي في الموصل القديمة، وهو حديث كشف عنه الوقف السُني في نينوى، وأكده نواب عن المحافظة.
وتفيد معلومات بقيام مستثمرين مجهولي الانتماء بشراء عقارات يصل عددها في اليوم الواحد إلى 35 عقارًا، مستغلين حاجة الأهالي المتضررين من الحرب، وتأخر التعويضات والإعمار.
ويقول عراقيون إن الوقف الشيعي يحاول الاستحواذ على مراقد دينية ومحلات مملوكة للوقف السني في مناطق كل سكانها من السُنة.
ويتابع الحمداني، وهو يسكن حاليًا منطقة “حاوي الكنيسة”: “خلال العام الأول بعد التحرير، سمعنا وعودًا كثيرة بشأن الإعمار والتعويضات، لكن لم نر تنفيذًا لها، لذلك تركت المنطقة وبعت الدار المدمرة بسبب القصف الجوي”.
وعود بلا تنفيذ
وعن تأخر جهود الإعمار في الضفة الغربية من الموصل، يقول قائممقام الموصل، زهير الأعرجي، إن “كلفة إعادة إعمار المدينة قُدرت بما بين 60 و80 مليار دولار”.
ويبيّن: “لكن الموازنات التي تأتي كانت خجولة لا تتناسب وحجم الدمار، فلدينا خمسة جسور استراتيجية خارج الخدمة، والقطاع الصحي وبناه التحتية ما زالت مدمرة”.
ويضيف: “استقبلنا زيارات دولية في الموصل.. وكان لنا رأي مشترك وهو أنها مدينة منكوبة، لكن ذلك لم يترتب عليه أية مساعدات. فقط نتلقى وعودًا.. مؤتمر الكويت للمانحين لم نتلقى منه إلا الوعود حتى الآن”.
ويتابع الأعرجي: “توجد مبادرة فرنسية لإعادة إعمار مطار الموصل، وننتظر المنحة والقرض”.
الحكومة تتحمل المسؤولية
النائب السابق عن نينوى، محمد نوري العبد ربه، يقول إن الإحصاءات تفيد بتعرض 120 ألف منزل في نينوى للدمار الكلي والجزئي؛ بسبب الحرب.
ويصف “العبد ربه” الوضع في الموصل بـ”المأساوي”، لا سيما في المنطقة القديمة التي تعرضت للدمار بشكل كامل.
ويحمّل الحكومة الاتحادية مسؤولية غياب الإعمار في مختلف قطاعات الحياة التي تعرضت للتدمير.
ودعا”العبد ربه” إلى عقد مؤتمر دولي في الموصل للإعمار، “كي يرى العالم حجم الدمار”.
نازحون بلا منازل
ما يزال أكثر من 300 ألف من سكان الموصل في عداد النازحين، لعدم امتلاكهم منازل ليعودوا إليها، بحسب مسؤولة الإعلام في المجلس النرويجي للاجئين، هيلين بكر.
وتشرح “بكر” أن “غياب الإعمار في الموصل سيبقي مئات الآلاف في مخيمات النزوح لسنوات”.
ومع الوضع الراهن، يعبّر موصليون من سكان الجانب الغربي للمدينة عن خيبة أملهم، بل ويأسهم من إعادة إعمار مناطقهم قريبًا.
وهو ما دفع الكثيرون من ميسوري الحال إلى مغادرة الموصل إلى إقليم شمال العراق أو إلى خارج البلد تمامًا، هربًا من وضع مأساوي في مدينة ما تزال منكوبة، رغم مرور عامين على تحريرها.
القدس العربي