في محاضرةٍ ألقاها في عمّان، بدعوة من الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة، الثلاثاء الماضي (27 أغسطس/ آب)، بعنوان “في التجربة السودانية، حالها ومآلها”، شرح الزعيم السوداني، الصادق المهدي، جوانب الوضع في بلاده، في حشد من البنود الموجزة، وتحت عناوين مثل: ملهبات الثورة السودانية الفريدة، بركات الثورة، مراحل الثورة الثلاث، مصفوفة الخلاص الوطني، الفرص، الحكم الراشد الاجتماعي التوافق، إصلاح الجسم السياسي. وقد جمع المحاضر بين الجوانب الفكرية والدستورية والسياسية والاجتماعية، كما لاحظ ذلك مدير الجلسة ومدير الجمعية الداعية (بالتعاون مع منتدى الوسطية) الوزير الأردني الأسبق، سمير الحباشنة. وفي القاعة الأنيقة التي احتشدت بالحضور، كان مراقبٌ، مثل كاتب هذه الكلمات، يتساءل مع نفسه إن كان للمهدي (84 عاما)، وهو صاحب السجل الحافل والتاريخ المشهود في مسيرة بلاده، دورٌ باق في المرحلة الجديدة، مرحلة المجلس السيادي، العسكري/ المدني، ومرحلة الوثيقة الدستورية، وهي التي سوف تمتد 39 شهرا، وقد بدأت بضم وجوه جديدة وشابّة نسبياً.
في لقاء تلفزيوني، سبق المحاضرة بعدة أسابيع، وصف المهدي نفسه بأنه “رئيس الوزراء الشرعي للبلاد”. وذلك في تذكير بانقلاب عمر البشير على حكومته في العام 1989. وقد أوضح الرجل أنه لا يفكر بالعودة إلى المنصب، ولا يريده. ولم يُعرف عنه بالفعل تهافته على المناصب، أو حتى بحثه عنها وسعيه إليها. ولعل التساؤل الأصح إن كان حزبه حزب الأمة (تأسس عام 1945) سوف يواصل دوره حزبا رئيسيا في المرحلة الراهنة وما يليها، وما يتطلبه ذلك من تجديدٍ للحزب في ضوء التحدّيات الجديدة، وهو الذي شارك في الانتفاضة السودانية ضمن ما سمّيت “قوى الإجماع”، وهذه تضم أحزاباً كبيرة، وكذلك ضمن تكتل “نداء السودان”. ولم يلعب المهدي دورا مباشرا في التجسير بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، حين اشتدت الأزمة. وبدا أقرب إلى التهدئة، مشدّداً على أن المجلس العسكري حليف للثورة، وليس عدوا، وإنه لولا المجلس لما أمكن للتغيير(إزاحة البشير ورموز حكمه) أن يتم، غير أن المجلس العسكري كان ينوي قيادة البلاد عامين على الأقل، وظل مُصرّاً بعدئذ على تصدّر أية قيادة انتقالية، وأن يكون له أرجحية فيها، مع تشديد المجلس على الاحتفاظ بوزارتي الداخلية والدفاع في الحكومة المقبلة التي يترأسها مدني، وقد أسند تشكيلها إلى الخبير الاقتصادي، عبدالله حمدوك.
وفي واقع الحال إن موقف المهدي، وإن كان ليس خاطئا، إلا أنه خفّف الضغط الشعبي على
“تحتاج هذه الآونة من حياة السودان إلى رجل مثل الصادق ليس بالضرورة في موقع القرار” المجلس العسكري، علما أن هذا الضغط كان مطلوباً (بدون عنف وبدون الوصول معه إلى حالة عدائية) لضمان الانتقال إلى حكم مدني. وفي الفترة نفسها (مايو/ أيار الماضي)، لم يكن لرمز المجلس العسكري، الفريق عبد الفتاح البرهان، زيارة دول عربية قبل أن يمتلك صفة تمثيلية باسم بلاده، كما فعل ذلك نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) في يوليو/ تموز، بعد أسابيع قليلة من فض الاعتصام الشعبي بالقوة، والذي أدّى إلى مقتل وإصابة أكثر من مائة ناشط مدني من جموع المعتصمين، وقد وصف حزب الأمة الذي يقوده المهدي ما جرى بأنه غدر وجريمة. وكان يمكن أن يشكل هذا الحدث مفصلاً مهما، فالتصعيد الخطير والدامي جرى من الأجهزة الأمنية، وليس من قوى الحرية والتغيير، ولكن الذي حدث بعدئذ أن المجلس العسكري استثمر الصدمة الرهيبة لإضعاف معنويات المحتجين، ولحمل قوى الحرية والتغيير على التفاوض في مناخ نفسيٍّ ضاغط وشرس. وقد أمكن، بعدئذ، للمجلس العسكري أن يتقاسم المجلس السيادي، وأن يتصدّره 21 شهرا. وبينما أقسم رئيس المجلس السيادي أمام مجلس القضاء لمباشرة مهامه، فقد أقسم أعضاء المجلس العشرة أمام رئيسه لأداء مهامهم، وهو إجراء رمزي يدل على أن رئيس المجلس هو من يقود البلاد، على الرغم من أن مهام المجلس السيادي تتمحور حول تمكين مجلس الوزراء من الولاية العامة، وإدارة شؤون البلاد، باستثناء السلطة القضائية التي بقي أمر تنظيمها موكلاً للمجلس السيادي، وكذلك قبول السفراء الأجانب واعتمادهم.
وليس من المبالغة في شيء القول إن مستقبل السودان للفترة المقبلة سيكون مرهونا بتوجهات المُكوّن العسكري وسياساته في المجلس السيادي، وكذلك من خلال وزارتي الداخلية والدفاع. إضافة إلى طبيعة التحقيق في مجزرة الثالث من يونيو/ حزيران، والذي عُهد به إلى لجنةٍ تم التوافق على تشكيلها، والنتائج التي سوف يتمخض عنها التحقيق، ومدى تطبيقها، سوف تؤشّر
“مستقبل السودان للفترة المقبلة سيكون مرهونا بتوجهات المُكوّن العسكري وسياساته في المجلس السيادي” على مدى جدّية العدالة الانتقالية في هذه المرحلة، وهي المرحلة الثانية، حسب تصنيف الصادق المهدي في محاضرته، والتي وصفها بأنها مرحلة “إقامة حكم مدني بمشاركة عسكرية، تحكمه وثيقة دستورية متفق عليها”، وقد تم التوقيع بالفعل على الوثيقة يوم 18 أغسطس/ آب الحالي، وتحدّد، بين بنود عديدة، تشكيل مجلس تشريعي انتقالي يضم ثلاثمائة عضو، تختار “قوى الحرية والتغيير” 67% منهم، بينما تضم النسبة الباقية القوى غير المشاركة، باستثناء الحزب الحاكم السابق، المؤتمر الوطني. أما المرحلة الثالثة فتتضمن الاتفاق على دستورٍ دائم للبلاد، يضعه مؤتمر قومي دستوري، وإجراء انتخابات عامة حرّة، بانتهاء المرحلة الانتقالية في أواخر العام 2022.
تحتاج هذه الآونة من حياة السودان إلى رجل مثل الصادق المهدي، ليس بالضرورة في موقع القرار، بل في قلب الحياة السياسية والعامة، باعتباره مرجعيةً وطنية وازنة، ولما يمثله من مكانة اجتماعية معتبرة (قيادة طائفة الأنصار التي اختارته إماما لها قبل نحو 16 عاما)، إضافة إلى قيادته حزب الأمة، وبما يتمتع به من علاقات إقليمية ودولية واسعة، وخبرات سياسية ثريّة، ولما يحظى به من مزايا الرجل المفكر والمنفتح، وكذلك الإيجابي، وإن كانت الصفة الأخيرة التي يتمتع بها بجدارة تدفع به أحيانا إلى تسوياتٍ متسرّعة أحيانا (حدث مثل ذلك بعد انقلاب البشير وتوقيع وثيقة التراضي الوطني معه)، قبل أن يعود عنها، ويصحّح المسار بنفسه، ويقود المعارضة مجدّدا.
وقد أشار الصادق المهدي إشارة دالة، في محاضرته في عمّان، إلى “غضبة ثورية عامة، ولكن تصدّرها الجيل المولود في العهد الظلامي الذي ضيّع النظام مستقبله”. ومن المنطقي أن تنبثق عن هذا الجيل أفواج من سياسيين وناشطين في العمل الوطني العام، وهم الأقدر على التعبير عن الاحتياجات الوطنية الملحّة، وصياغة سبل تلبيتها، بما يتلاءم مع أنماط الحياة الجديدة ومتطلباتها وإيقاعها.
العربي الجديد