السؤال الأهم في أي عمل سياسي هو: من يتحمّل المسؤولية، وما هي المسؤولية؟ يلجأ السياسي السيئ وغير النزيه إلى التهرب من المسؤولية، بينما يعلن من يحترم نفسه ومنصبه مسؤوليته دائماً عمّا يقوم به أو يرتبط به من أفعال وأقوال وقضايا، بحسب الموقف وطبيعته وحقيقته.
أما في العراق، فقد برعت الطبقة السياسية الحاكمة في فن التهرب من المسؤولية على مدى الستة عشر عاماً الماضية. حتى كلمة المسؤول بحدّ ذاتها أصبحت ذات ارتباطات ومعانٍ سلبية كثيرة ومتعددة في العراق، بسبب سلوك المسؤولين فيه. وعندما اندلعت انتفاضة أكتوبر المستمرة، التي تحولت إلى ثورة على الطائفية والفساد، كان سؤال المسؤولية أعلى وأكبر ويتعلق بقضايا كثيرة تتعلق بأسباب الانتفاضة. ولكن كان هناك أيضاً، ولا يزال، السؤال عن قتل المتظاهرين الذي بدأ منذ اليوم الأول للتظاهرات، ومَن المسؤول عن ذلك. وقد كان الجواب الذي قدمته الحكومة العراقية غريباً ومؤلماً، مضحكاً مبكياً في الوقت نفسه: الطرف الثالث. طرف ثالث هو من يقتل المتظاهرين والقوات الأمنية، بحسب زعم الحكومة العراقية.
بدأت حكاية الطرف الثالث مع الأيام الأولى للتظاهرات في العراق. منذ البداية، جاءت تصريحاتٌ بدت غريبة فعلاً من أحد المتحدثين باسم القوات الأمنية عن طرفٍ ثالث يقتل المتظاهرين، وهو نفسه يقتل القوات الأمنية وأين؟ في وسط بغداد التي تسيطر عليها القوات الأمنية بعناصرها واستخباراتها وكاميراتها ومخبريها، وبالتعزيزات التي قامت بها قبيل التظاهرات، استباقاً لها وتحضيراً.
عاد الحديث عن الطرف الثالث ليكتسب زخماً كبيراً أخيراً، مع تركيز المتحدثين باسم القوات
“ادعاءات الطرف الثالث، جاءت من الحكومة العراقية أو غيرها، لن تنفع في التهرّب من المسؤولية”الأمنية والحكومة عليه، وأيضاً مع حديث وزير الدفاع العراقي، نجاح الشمري، عن ذلك الطرف المزعوم، في مقابلة معه أجريت في أثناء زيارته فرنسا. استرسل الشمري في الحديث والتنظير عن هذا الطرف بصيغة جازمة، محملاً إياه المسؤولية عن قتل المتظاهرين والقوات الأمنية. ونجاح هذا الرجل نفسه وقصته يقدمان مثلاً للمأزق الذي وصل إليه النظام السياسي العراقي، وصيغه التي لم تعد تعمل. فبعد أن بقي منصب وزير الدفاع شاغراً لأشهر طويلة، بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، عُيِّن في منصبه مرشحاً من رئيس الوزراء السابق، إياد علاوي، ضمن حصة حكومية لكتلته السياسية. قدم علاوي نفسه سنواتٍ طويلة حلاً علمانياً وطنياً معادياً للنفوذ الإيراني، لكنه لم يكن – طوال سنوات العملية السياسية – سوى صوت يضجّ بنقد النظام السياسي، ويشارك فيه بفاعلية. طالما وصف الانتخابات بالمزوّرة، لكنه استمر في المشاركة الفاعلة فيها وقبول ما يُعطى له من حصص ومناصب نتيجة للانتخابات. وكان نجاح الشمري حصته الأخيرة.
بالإضافة إلى تصريحاته غير المقنعة عن الطرف الثالث المزعوم، يواجه الشمري اتهامات تتعلق بقيامه بأعمال تزوير واحتيال على نظام الرعاية الاجتماعية في السويد التي كان لاجئاً فيها منذ عام 2009، قبل أن يعود إلى العراق ويصبح وزيراً. ويبقى سؤال آخر يتعلق بمنطقية أن يكون الشمري لاجئاً وهارباً من نظامٍ يعود ليصبح وزيراً للدفاع فيه. هل كان مهدّداً فعلاً، وكيف انتهى واختفى التهديد، ومن المسؤول عن ذلك كله؟ تثبت كل تلك القصة وأسئلتها أن الواقع في العراق أصبح عصيّاً على الحلول القديمة والسياسات القديمة والسياسيين الذين لم ينتجوا حلولاً حقيقية لمشكلات العراق.
لكن الطرف الثالث قد يكون فعلاً موجوداً ومؤثراً، ومنذ الأيام الأولى. فعلى الرغم من أن وزير
“الواقع في العراق أصبح عصيّاً على الحلول القديمة والسياسات القديمة”الدفاع الشمري استبعد شبهة أنه يقصد الحشد الشعبي، حينما تحدث عن الطرف الثالث، جاءت تصريحات من مليشيات عراقية تنتمي إلى الحشد تهاجم الوزير وتصريحاته التي اعتبرتها تلميحاً إليها. لكن تقارير صحافية تواترت، منذ الأيام الأولى للتظاهرات، كشفت أن هناك دوراً لإيران وحلفائها في المليشيات الشيعية العراقية في قيادة جهود قمع التظاهرات والمتظاهرين وتنسيقها. لا بل تضمنت التقارير أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، نفسه حضر إلى العراق، للتدخل أمنياً في طرق التعامل مع التظاهرات، وسياسياً في إبقاء عبد المهدي رئيساً للوزراء، وعدم تقديم تنازلات للمتظاهرين قد تؤدي إلى انهيار يؤثر بكل المحور الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط.
غنيٌّ عن القول أن إيران أيضاً ترى طرفاً ثالثاً آخر مختلفاً، هو الولايات المتحدة التي تتهمها طهران بالقيام بمؤامراتٍ تستهدفها في تحريك التظاهرات ضدها، وضد حلفائها في العراق ولبنان. لكن الانتفاضة العراقية ظاهرة عراقية خالصة، حركتها الظروف الموضوعية من انتشار للفساد والطائفية والظلم وسوء الخدمات العامة وفشل العملية السياسية. تعمّدت الانتفاضة بدم الضحايا الذين قتل منهم مئات، وجرح آلاف، وتحولت إلى ثورة، بفعل موقفها الثابت المطالب بتغيير جذري للواقع ولأسلوب التهرب المزمن من المسؤولية الذي برع فيه المسؤولون العراقيون. ادعاءات الطرف الثالث، جاءت من الحكومة العراقية أو غيرها، لن تنفع في التهرّب من المسؤولية. إذا نجحت الانتفاضة العراقية في إحداث تغيير حقيقي، فستكون محاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين من أولى نتائجها. كذلك، لن يكون أمام أي بديل سياسي قادم في حكم العراق مجال للعب اللعبة القديمة نفسها في التهرّب من المسؤولية وإلقائها على طرف ثالث.
العربي الجديد