يعدّ فهمي جدعان أحد الأصوات المتميزة في الثقافة العربية المعاصرة بالنظر إلى القضايا التي يطرحها في كتابات ودراسات متعددة المنابع والمصادر. وقد عرفت كتاباته بالتحليل العلمي الرصين للأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية في الوطن العربي، وبنقده المزدوج للعرب والغرب على السواء في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، فهو من دعاة إعادة قراءة التاريخ الإسلامي برمته بروح نقدية.
صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب جديد للمفكر الأردني فهمي جدعان بعنوان “تحرير الإسلام”، وقد قسم هذا الكتاب إلى قسمين، الأول بعنوان “تحرير الإسلام” ويتضمن عشرة فصول، أما القسم الثاني الموسوم بـ”رسائل زمن التحولات” فقد حوى ثلاثة عشر فصلا.
تحرير الإسلام
ينفي مؤلف الكتاب أن يكون المقصد من وراء عنوان كتابه “تحرير الإسلام”، هو الدعوة إلى تحرير دين الإسلام من مقدماته الكبرى ومن عقائده الأساسية، أو تقديم إسلام جديد يشجب التجربة الإسلامية التاريخية ويتنكر لها ويعوضها بإسلام آخر جديد، إن ما يقصده على وجه التحديد كما يقول هو “الدفاع عن صورة للإسلام (…) متحررة من الاختلاطات والاختلافات والتجاوزات والتأثيرات الزمنية، التاريخية، والبشرية”.
وسبيل الكاتب إلى ذلك لم يكن الذهاب إلى استخلاص أو استنتاج أو تبين عقائد أو تصورات ومواقف “مبتدعة”، وإنما الذهاب إلى تحريره من جملة العقائد والتصورات والمفاهيم والمواقف التي يعتقد فهمي جدعان أنها سالبة، تجريد هذا الدين من صورته، التي تؤدي حتما إلى الفهم المغلوط الذي يولد بدوره إساءات حقيقية له ولأهله.
ففهمي جدعان قام في كتابه بتمثل شخصي عقلي ووجداني، لإيمانه، ولنصوص الوحي وروحها وغايتها. في اجتهاد نقدي في مسائل الوجود والمجتمع وحياة هذا الدين وأهله في العالم. فهو يعتقد أن دين الإسلام في ذاته، دين يستحق أن يعاش، وأن يكون خيارا إنسانيا عاقلا لإنسان يريد أن يحيا حياة أخلاقية، طيبة، مطمئنة، سعيدة، عادلة، رحيمة، وكريمة.
لكن من الضروري بذل ما في الإمكان من أجل حماية هذا الدين من أهله أولا، ومن مبغضيه وأعدائه ثانيا، وذلك يتطلب تحريره من ثلة من التصورات والتمثلات والمواقف التي تفسد صورته وتجور عليها وتيسر إصابته والإساءة إليه، وربما أيضا إقصاءه من لوح الوجود الحي. ونلفت إلى أن الكاتب في جملة مقاربته للمسألة، ليس داعية، ولا واعظا دينيا ولا إسلاميا سياسيا أو غير سياسي، إنما هو مفكر يقيم بحثه على منهج عقلاني تكاملي، واقعي ونقدي وحرّ.
غدا الإسلام في السنين الأخيرة مصدر إنكار ونفور وكراهية وتوجس وإساءة، بعد أن كان مصدرا إنسانيا للسلم والعدل والقيم الأخلاقية النبيلة والتواصل الإنساني الرحيم. ومنبعا للحرية والعدل والكرامة، وقد ساهمت العولمة في إنتاج هذا الوضع بشكل كبير، وهذا ما سبق أن أشار إليه المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد في حديثه حول مسألة تغطية الإسلام، حيث أكد أن الموضوع يتعلق باستجابات غربية لعالم إسلامي أصبح مهمّا مع مطلع السبعينات من القرن الماضي (ثروة النفط)، لكنه عالم مضطرب وغارق في المشاكل التي أصبحت مصدرا للعداء.
السياج الدغمائي
إن التغطية الإعلامية للإسلام حسب فهمي جدعان مليئة بالمغالطات وبعيدة عن الموضوعية حيث يتمّ تصوير الإسلام كدين يتميز بالعصبية العرقية والكراهية الثقافية والجنسية، في حين تحظى المسيحية واليهودية باحترام كبير بل بالانتعاش. فالإعلام جعل من الإسلام دينا متهما ومدانا دون الحاجة إلى حجج مدعمة.
ومن مظاهر الخلط والتغطية غير الموضوعية هو الحديث عن الأصولية وربطها بالإسلام، كأنه هو الدين الوحيد الذي أنتج الظاهرة الأصولية، فلماذا يتمّ تجاهل الأصوليات اليهودية والمسيحية والهندوسية؟
لقد أصبحت وسائل الإعلام تختزل الإسلام في الأصولية وتضع هذه الأخيرة بمثابة العدو الأول الذي تنبغي محاربته بعناوين تحريضية في كبريات الصحف الغربية والأميركية خاصة، كما كان الأمر من قبل مع الشيوعية أثناء الحرب الباردة، فخطر الإسلام أصبح بديلا عن الخطر الأحمر.
إن هذه التغطية السلبية تسعى من بين ما تسعى إليه إلى التغطية على جرائم إسرائيل ودعم أميركا لها، واعتبارها ضحية العنف الإسلامي، كما تريد إخفاء الحقيقة التاريخية حول هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين وتدمير أرض العرب وسلب ممتلكاتهم وتهجير أغلبيتهم، إضافة إلى طمس حقيقة ما يفعله الغرب الذي يسلط الضوء على ما يسميه ماهية المسلمين والعرب المعيبة دون تمييز، ورسم صورة للمسلم على أنه إرهابي، عنيف، مسلح، ملتح، متعصب.
بالإضافة إلى إسهام العولمة في إنتاج هذا الوضع المريب، أصبح الإسلام اليوم يشهد تنامي وتعاظم صيغ إسلامية جديدة من داخل مجتمعات إسلامية تعمل على نشر صورة سلبية حول الإسلام، صورة مغايرة لجوهره وماهيته الأصلية، وتدافع ببسالة على فهم سطحي ظاهري للنص الديني، وتهاجم بشراسة كل محاولة علمية أدركت ركوض العقل الإسلامي.
يؤدي هذا الانغلاق اللاهوتي الذي يطبع الفكر الإسلامي إلى تشكيل إكليروس ديني مضمر يتحكم بالإسلام ويرفض أي تأويلية مستجدة له، بل ويظهر عداوة مقيتة للعلوم الحديثة التي ليس له أدنى دراية بتخصصاتها.
لا يمكن لوضع مركب كهذا إلا أن ينتج مسلما مقلوبا يعاني من تبعية تفسير القرآن لا نص القرآن، مسلما لا يقوى على التمييز بين الكلمة الإلهية (النص) والكلمة البشرية (التفسير)، مسلما ذا ذهنية أسطورية متينة يصعب اختراقها، إذ سرعان ما تظهر أنيابها لكل محاولة تسعى إلى إنتاج تفسير تحليلي بنيوي يزاوج بين علوم العصر والقرآن الكريم.
ويؤكد فهمي جدعان في كتابه “تحرير الإسلام” على أن السياج الدغمائي يضع حدودا بين المفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.
فهمي جدعان
عرض:المهدي مستقيم