ظاهرة بريماكوف

ظاهرة بريماكوف

150626182003_yevgeny_primakov_640x360_bbc_nocredit

كاتب لبناني يتتبع مواقف بعض الحركات العربية و«الإسرائيلية» تجاه العلاقة بين اليهود والصهيونية يصل إلى مفارقة تلفت النظر.
فهناك حركات وأفراد عرب، قوميون وإسلاميون وغيرهم يعتبرون كل يهودي صهيونياً بالضرورة.
ولا تشغل هذه الحركات وهؤلاء الأفراد أنفسهم كثيراً باليهود الذين لا يؤيدون الصهيونية ولا يتجاوبون مع مواقفها ودعواتها.
بل إن هذه الحركات وأولئك الأفراد العرب لا يعبأون حتى باليهود الذين يعارضون الصهيونية بالفكر والعمل.
فهؤلاء ظواهر لا قيمة كبرى لها في خضم الأكثرية الساحقة من اليهود الصهاينة.
مقابل هؤلاء فإن الحركة الصهيونية هي نفسها تعتبر كل يهودي صهيونياً بالضرورة، وتتحدث عن اليهود غير الصهاينة باعتبارهم ظواهر وحالات شاذة ليهود ضالين، تماماً كما كانت النازية والعقائد العنصرية تتحدث عن الأفراد الذين يختارون «خطأ» الجنسية التي ينتمون إليها.
أما اليهود المناهضون للصهيونية، فإن الصهاينة ينظرون اليهم أيضاً على أنهم ظاهرة ضئيلة الأهمية محدودة الأثر في حياة اليهود، وأفرادها هم في أغلب الأحوال من «كارهي أنفسهم».
بين الحين والآخر يتذكر المرء هذه الظاهرة، فتستوقفه دلالاتها ونتائجها على مصير قضية الصراع مع الصهيونية، مع العنصرية، ومع القوى المناهضة للإنسانية وللتقدم الإنساني.
وقبل أسابيع قليلة تذكر البعض هذه الظاهرة عندما أعلن وفاة رئيس الحكومة الروسية السابق ايفغيني بريماكوف.
لقد كان بريماكوف من الشخصيات الروسية الأوكرانية الأصل البارزة، ومن النجوم البارزين في العلاقات الدولية.
وكان بريماكوف من أبرز الشخصيات الدولية التي تخصصت في الدراسات العربية والشرقية وعملت في حقل والتأليف حول الشرق الأوسط.
وما أضاف إلى معرفته بالمنطقة أنه عمل سنوات في الاستخبارات السوفييتية فأتيح له أن يطلع على خبايا المنطقة وأسرارها، وأن يبني شبكة واسعة من العلاقات مع زعماء المنطقة، وأن تكون له الحظوة لديهم، كما أفادته هذه العلاقات في موسكو أيضاً إذ وجد الزعماء الروس أن علاقاته العربية والشرق أوسطية تفيدهم على الصعيد الإقليمي والدولي فاسندوا إلى بريماكوف بعض الأدوار الحساسة.
كان بريماكوف، كما هو معروف، يهودياً مثلما كان أحد أبرز بيريا رئيس الاستخبارات الروسية إبان حكم ستالين، يهودياً.
ولكن، بسبب صلة بريماكوف بالشرق الأوسط، واستطراداً بالصراع العربي «الإسرائيلي» فإن خلفيته الدينية كانت أكثر إثارة للاهتمام من خلفية بيريا الدينية.
خلفية الأخير الدينية كانت موضع اهتمام عابر عندما أثيرت قضية «مؤامرة الأطباء اليهود» المزعومة.
أما خلفية بريماكوف الدينية فإنها كانت تثير شيئاً من الاهتمام في مراحل متعددة.
في سائر هذه المراحل اتسم سلوك بريماكوف بأنه كان وطنياً روسياً بالدرجة الأولى، وأن ولاءه لبلده وللقيم السائدة فيه يتقدم على الولاءات الأخرى الدينية أو الجغرافية.
برهن بريماكوف على ولائه لبلده وللمعتقدات السياسية والفكرية السائدة في تقديمه النصح إلى الزعماء الروس بضرورة الحفاظ على العلاقات الطيبة مع العرب، وأهمية تقديم الدعم لهم في مواقفهم المحقة.
وعند الحديث عن مصالح العرب وحقوقهم لم يكن بريماكوف يعني، كما أوضح في مناظرته الشهيرة مع هنري كيسنجر، الحكام فحسب، وإنما المواطنين أيضاً، لذلك كان يقول بالضغط هنا وهناك على الحكومات العربية الصديقة لكي تقدم التنازلات والإصلاحات.
أيد الزعماء العرب في تمسكهم بالسيادة لكن من دون أن تغيب عن باله أهمية الإصلاح الديمقراطي.
وفي تعبيره عن مصالح الروس والقيم الإنسانية وقف بريماكوف بقوة ضد «الأوليغاركيين»، وبعضهم من حملة الجنسية «الإسرائيلية»، مثل الشخصية الأهم بينهم بوريس بيريزوفسكي وحمل عليهم وطالب بمحاسبتهم لأنهم نهبوا أموال الدولة الروسية.
وبفضل هذه المواقف الجريئة اكتسب بريماكوف شعبية كبرى تجاوزت الحساسيات والتعصب الديني القديم الذي أثر أحياناً في الواقع السياسي.
في نهجه هذا وقف بريماكوف موقفاً مخالفاً لما مثلته الحركة الصهيونية والحكومات «الإسرائيلية»، ومشابهاً لمواقف الكثيرين من الشخصيات اليهودية البارزة على المسرح الدولي، الذين رفضوا الصهيونية وعبروا في مواقفهم السياسة والعامة عن قيم إنسانية عامة.
تضم هذه اللائحة أسماء كثيرة من رجال السياسة ابتداء من اللورد مونتيغيو الذي عارض إعلان بلفور، وأكد تمسكه بهويته الوطنية الإنجليزية ورفضه أي بديل عنها، ومروراً بالمستشار النمساوي برونو كرايسكي الذي اتهم «إسرائيل» بأنها تبني نظام “الأبارتيد” على غرار دولة العنصريين البيض في جنوب إفريقيا، وبيير منديس فرانس، رئيس الحكومة الفرنسية السابق الذي أيّد استقلال دول المغرب العربي وعمل على بناء علاقات صداقة مع الدول العربية.
وتضم هذه اللائحة أيضاً عدداً من البارزين والبارزات في عالم الفكر والمعرفة والأدب والفن، مثل سيغموند فرويد، والبرت اينشتاين، وإريك فروم، وحنه ارندت، ونعوم تشومسكي، والحاخام ميخائيل ليرنر، وريتشارد فولك، وغيرهم المئات المنتشرين في مجتمعات العالم، الذين يعتزون بانتمائهم إلى هذه المجتمعات ويعملون من أجل توطيد تعاونها مع المجتمعات الأخرى وترسيخ هذا التعاون على أسس إنسانية.
حري بالمعنيين بالقضية العربية أن يتوقفوا أمام هذه الأسماء وأن يجتهدوا في اكتشاف المزيد منها من اليهود غير الصهاينة والمناهضين والمناهضات ليس للصهيونية فحسب، وإنما أيضاً لسائر أشكال العنصرية وأطيافها المعلنة والتنكرية، والعاملين، كل على طريقته وبما هو متوفر له من إمكانات فكرية ومعنوية وبشرية في تعزيز فكرة المساواة بين البشر.
عندما يتوقف المعنيون بالقضية العربية أمام هذه الأسماء، سوف يتأكد لهم انهم ليسوا قلة قليلة، كما يدعي الصهاينة، بل هم عدد يتكاثر ولا يمكن تجاهله لا في الحسابات الفكرية ولا السياسية.

رغيد الصلح

صحيفة الخليج