بين الاحتجاجات المتصاعدة وتيرتها في مختلف أرجاء البلاد واستقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي خلال نهاية الأسبوع الماضية، سلّطت الأحداث الأخيرة التي شهدها العراق الضوء على مستقبل النفوذ الإيراني على بغداد. فغالبًا ما توصف طهران بأنها محركة دمى خفية تشغّل بالكامل ميليشيات شيعية ووكلاء آخرين تابعين لها في خدمة أهدافها في العراق. لكن العديد من هذه الجهات الفاعلة لديها ولاءات قبلية أيضًا تقف على طرفي نقيض أكثر فأكثر مع الولاءات الإيرانية – وذلك بشكل جزئي ردًا على الأفعال التي ارتكبتها جماعات وكيلة بحق قادة القبائل، وكذلك لأن الميليشيات فشلت فشلًا ذريعًا في توفير الأمن المناسب أو كبح الفساد. وبالتالي، في وقت تواصل فيه طهران مسعاها لجمع الحكومة العراقية والسيطرة عليها، قد تكون قوة القبائل الشيعية وتلك المختلطة مصدر تفوّق على الوكلاء المكلفين بإنجاز هذه المهمة، بمن فيهم “قوات الحشد الشعبي”.
معضلة الخفاجي
من القبائل الشيعية الرئيسية جنوبي العراق، تقدّم قبيلة “الخفاجة” مثالًا على اتجاهين رئيسيين: كيف تميل القبائل إلى دعم الحصان الأقوى، وكيف يمكن لجهود طهران للضغط عليها أن تعطي نتائج عكسية. خلال حكم صدام حسين، أرسلت أطراف من قبيلة “الخفاجة” آلاف المقاتلين للانضمام إلى قواته المسلحة، خلال حرب إيران-العراق وعندما أطلق أبناء طائفتهم الشيعة حركة تمرد في الجنوب عام 1991. لكن في وقت لاحق، ومع انتهاء الاحتلال الأمريكي الذي بدأ بغزو العراق في العام 2003 وتصاعد حدّة الانتفاضة السورية لتصبح حربًا، بدأت العديد من فصائل القبيلة بالاصطفاف أكثر إلى جانب المنظمات المدعومة من إيران.
ففي العام 2012 مثلًا، انفصل رجل الدين القبلي الشيخ أوس الخفاجي عن القائد الشيعي العراقي مقتدى الصدر وشكّل “قوات أبو الفضل العباس” المدعومة من إيران، وهي جماعة استُخدمت لتجنيد وإرسال المقاتلين دعمًا لنظام الأسد في سوريا. ومن بين الوجوه القبلية البارزة الأخرى، الشيخ رعد الخفاجي، الذي تردّد أنه عمل كقائد ضمن الجماعة التي صنفتها الولايات المتحدة على لائحة الإرهاب “كتائب حزب الله” والتي تُعتبر أحد وكلاء إيران الأكثر ولاءً وتمسكًا بالإيديولوجية.
لكن موقف القبلية بدأ يعارض هذه الروابط في شباط/فبراير 2019 عندما اعتقلت “قوات الحشد الشعبي” الشيخ أوس وأوقفت أنشطة “قوات أبو الفضل العباس”. وعلى ما يبدو أن حملة القمع هذه التي طالت الميليشيا شُنّت بسبب اتهامه طهران بالتورط في اغتيال أخيه في القبيلة علاء مشذوب، وهو كاتب اشتهر بانتقاد تدخل إيران في العراق. وسابقًا، كانت “قوات أبو الفضل العباس” تجنبت نشر المشاكل القبلية في العلن، في حين ركّز الشيخ أوس الذي اشتهر بصراحته على المسائل الطائفية والأمنية. غير أنه بعد اعتقاله، أصبحت مصادر القلق القبلية محور الاهتمام.
وفي البصرة على سبيل المثال، أعطى قادة “الخفاجة” الحكومة المركزية مهلة 48 ساعة للكشف عن مكان وجود الشيخ وعن حالته الصحية، في وقت هدّد فيه الزعيم القبلي المحلي عادل الخفاجي بإغلاق المراكز الحدودية مع إيران ردًا على الاعتقال. كما دعا فصيل بغداد التابع للقبيلة إلى إطلاق سراحه، فنظم احتجاجات خارج المنطقة الخضراء وبالقرب من مقرات “قوات أبو الفضل العباس” المقفلة في العاصمة.
وفي أيار/مايو، أعلنت القبيلة أنه تمّ إطلاق سراح الشيخ أوس وأُسقطت التهم الموجهة إليه، لكن المصالحة مع طهران بدت مستبعدة. وبعد شهرين، أفادت تقارير عن خطف شقيقة الشيخ وعائلتها في أهواز، إيران. ورغم أنهم تمكنوا من الفرار من قبضة الخاطفين بعد فترة قصيرة، إلا أن هذه الحادثة كانت ربما وسيلة إيران لتحذيره كي يكون أكثر تعاونًا معها أو على الأقل أن يقف على الحياد. غير أن الشيخ لم يتراجع البتة، ودعم علنًا الاحتجاجات المناهضة للحكومة ولإيران التي اندلعت في مختلف أنحاء البلاد خلال فصل الخريف الحالي، باستخدام حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي للتأكيد على مطالب المتظاهرين المحقة. وعلى نحو مماثل، رفع أفراد آخرون من قبلية “الخفاجة”، ولا سيما الشباب منهم، شعارات في مختلف أنحاء بغداد لدعم الاحتجاجات.
صحوة القبائل المختلطة
في حين أن بعض القبائل الأوثق صلة بهذا الحديث هي ذات تركيبة شيعية بمعظمها، إلا أن قبائل أخرى هي أكثر تنوعًا بحيث تضم فصائل سنيّة كبيرة. وتقوم بعض هذه القبائل حاليًا بالتقليل من أهمية الفوارق الطائفية وباعتماد نهج موحد أكثر ردًا على ازدياد الغضب إزاء الضغوط الناتجة عن إيران ووكلائها، والشعور بالإهمال من جانب بغداد واستمرار المخاوف الأمنية.
“الخزرج”. تستقر هذه القبيلة شمالي بغداد في محافظة صلاح الدين، حيث يتمركز أفرادها الشيعة حول الدجيل ويعيش معظم أفرادها السنّة بالقرب من تكريت. ولأسباب موضحة أدناه، تنازع العديد من أفرادها مع عناصر “الحشد الشعبي” الخاضعين لإيران.
وفي آذار/مارس 2015، نقل موقع “العرب” أن ميليشيا “سرايا طليعة الخرساني” (اللواء 18 ضمن الحشد الشعبي) الخاضعة لإيران اختطفت أفرادًا من قبيلة “الخزرج” وقتلت عددًا غير معروف من أفرادها الشيعة. وردًا على ذلك، قام سكان محلة الخزرج المحليون باختطاف عناصر من الميليشيا.
هذا وجرت عمليات انتقام مماثلة عندما اغتيل ابن القبيلة العقيد في وزارة الداخلية حسين علي فيصل الخزرجي على يد “مسلحين مجهولين” في تموز/يوليو 2018. واشتُبه إلى حدّ كبير بأن يكون القتلة من عناصر جماعة “عصائب أهل الحق”، أحد أبرز وكلاء إيران التي تشكّل الألوية 41 و42 و43 من “قوات الحشد الشعبي”. وعندما عاد موكب جنازة العقيد من النجف إلى الدجيل، اختطف عناصر “عصائب أهل الحق” شيخين بارزين من قبيلة “الخزرج”؛ وقد وُجدا معدمين لاحقًا. وقد تسببت هذه الحادثة بقتال استمر لأيام وأسفر عن مقتل 4 من عناصر “عصائب أهل الحق” و3 من أفراد القبيلة. وقد دعا قادة القبيلة علنًا “عصائب أهل الحق” إلى الانسحاب من الدجيل ومناطق قبلية أخرى ذات أغلبية شيعية، مطالبين باستبدال قوات الجماعة بمليشيا “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر، في رسالة واضحة داعمة لخصم إيران الشيعي الأبرز والفصيل الذي انشقت عنه “عصائب أهل الحق”.
وبحسب صحيفة “القدس العربي”، كانت الاشتباكات الحلقة الأحدث في صراع تمّ التغاضي عنه بين قبيلة “الخزرج” و”عصائب أهل الحق” بدأ منذ سنة على الأقل. وتردّد أن “عصائب أهل الحق” اغتالت العديد من أفراد القبيلة التابعين لـ”سرايا السلام” وقوات الأمن العراقية. كما اتُهمت الجماعة بالتورط في أنشطة إجرامية استهدفت أفراد من القبائل والأراضي التي يملكونها.
ورغم لقاءات المصالحة مع الأعداء، لا تزال التوترات مستمرة حتى اليوم. وبحسب الكلمات التي استخدمها مقاتل شيعي في قبيلة “الخزرج” ومقاتل سابق في “سرايا السلام” لم يرد الكشف عن هويته، “فحتى إن كانت الأوضاع هادئة مع [الجماعات المدعومة من إيران في مناطقنا]، نحن لم نعد نرغب في وجودها… احتجاجاتنا هذه لأسباب متعددة … وهذه المسألة تكتسي بدورها أهمية”.
شمّر. منذ العام 2016، ساعد أفراد هذه القبيلة على قيادة تحوّل العراق الأوسع نطاقًا نحو هوية قبلية أقوى باعتبارها محطّ اهتمام اجتماعيًا وسياسيًا. وإذ تُعتبر من بين أكبر القبائل في الشرق الأوسط، يمتد نفوذ “شمّر” عبر السعودية والكويت والعراق وسوريا حيث لأفرادها من السنّة والشيعة ولاءات مختلفة. على سبيل المثال، أصبح بعض شيعة القبيلة قادةً في أشدّ الميليشيات الإيرانية طائفيةً؛ في حين انضمّ بعض الأفراد من السنّة إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ بينما انضمّ سنّة آخرون إلى ميليشيات مناهضة للتنظيم؛ وتحوّل البعض من دعم الفصائل المتمردة ضمن “الجيش السوري الحر” في سوريا إلى تأييد ميليشيات ذات ميول قبلية على نحو أكبر تركّز على حماية مصالح قبيلة “شمّر” في المنطقة والتخطيط لها (مثلًا ” قوات الصناديد”).
وامتد التحوّل الأخير ليطال الداخل العراقي، ولا سيما بعدما اختطف تنظيم “الدولة الإسلامية” أكثر من ثلاثين شخصًا من قبيلة “شمّر” ونفذ هجمات في مناطق شمال بغداد خلال فصليْ ربيع وصيف العام 2018. وحين عجزت الحكومة المركزية ووكلاء إيران عن الردّ بالشكل المناسب على هذه الأحداث، شكّل ذلك نقطة تحوّل بالنسبة للعديد من أفراد “شمّر”.
واليوم، يشغل حسين علوان – مقاتل سابق مع “جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر الذي كانت لديه انتماءات مع عدد من الميليشيات المدعومة من إيران في السابق – منصب الزعيم والمتحدث باسم شيعة “شمّر” الساعين إلى الحصول على حماية وخدمات واعتراف أكبر من الحكومة العراقية. وفي عدد من المقابلات مع الكاتب، صرّح قائلًا: “سواء كنا سنّة أو شيعة، سنفعل أي شيء من أجل قبيلتنا … فـ”قوات الحشد الشعبي” لا تقوم بما يكفي لتوفير الأمن… ونحن أساسًا قادة في هذه الجماعات، ولكننا بحاجة إلى قوة من صلبنا … من أجل إيصال رسالة”. وفي تموز/يوليو 2018، أوصلت فصائل من هذه القبيلة تلك الرسالة من خلال تشكيل “لواء شمّر في بغداد”. ورغم أنه لم يتمّ نشر هذا اللواء عسكريًا، إلا أن مؤيديه واصلوا الاحتجاج على ظروف القبيلة المعيشية الفقيرة – في حملة دفعت ببعض أفراد القبيلة إلى المشاركة في التظاهرات الحاشدة التي عمّت شوارع بغداد وغيرها من المدن في الآونة الأخيرة.
التعبئة القبلية وأعمال العنف
ناهيك عن إظهار الدعم للاحتجاجات الوطنية، لعب بعض أفراد القبائل دورًا رئيسيًا في أعمال الانتفاضة الأكثر عنفًا. ففي بغداد والبصرة وذي قار وميسان، تولت هذه العناصر مسؤولية التخطيط لتكتيكات الاحتجاجات وإقفال الطرقات وحتى الانتقام من جماعات مدعومة من إيران.
وكان هذا الميل نحو الانتقام قد نتج عن مقتل العديد من المحتجين على يد قوات الأمن الحكومية ووحدات “الحشد الشعبي” المدعومة من إيران. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الجماعات القبلية تتولى رسم معالم المواجهات في بغداد، مضطلعةً بدور الصوت الرئيسي الذي يحثّ الحكومة على كبح قواتها و”قوات الحشد الشعبي”. وفي أمثلة أخرى، كان الردّ أقوى – ففي 25 تشرين الأول/أكتوبر، اختار بعض أفراد القبائل الانتقام لمن سقط منهم من خلال حرق أكثر من عشرة مقرات لمنظمات مدعومة من إيران في جنوب العراق.
هل يفقد الصدر السيطرة؟
حاول مقتدى الصدر أن يكون الوجه السياسي لأولئك المحتجين على النفوذ الإيراني وانتهاكات الحكومة. لكن في وقت لا يزال فيه نفوذه على السياسة الوطنية قويًا، إلا أن سيطرته على حلفائه من القبائل قد تكون محدودة. فقد شهدت الأحياء الفقيرة من مدينة الصدر في بغداد – وهي منطقة دعم رئيسية له وملجأ للآلاف من أفراد القبائل الذين انتقلوا من المناطق الريفية – بعض أكثر الاحتجاجات حدّة. واستنادًا إلى تقرير نشرته “نيويورك تايمز” في 20 تشرين الثاني/نوفمبر، عوّل قائد أحد الاحتجاجات المرتبط بالصدر على شبكة من المعارف القبلية من أجل الحشد للتظاهرات هناك، بدلًا من استخدام مكاتب الصدر الخاصة. وبالفعل، فقد تمّ تنظيم العديد من الاحتجاجات التي هزّت بغداد منتصف تشرين الأول/أكتوبر من خلال هذه الروابط بعدما كان أفراد القبائل من بين الذين أُصيبوا أو قُتلوا في وقت سابق من الشهر المذكور.
كما أُثيرت تساؤلات حول سلطة الصدر على القبائل الشيعية حين قُتل قائد “عصائب أهل الحق” وشقيقه في العمارة في الشهر نفسه عقب تقارير عن مقتل عشرة محتجين. واستنادًا إلى بعض الناشطين، نشأ الحادث عن صدامات بين “سرايا السلام” و”عصائب أهل الحق”، في إشارة إلى أن بعض أعضاء ميليشيته ربما يتصرفون على هواهم ويدفعهم قلقهم على مصالحهم المحلية والقبلية. ومنذ ذلك الحين، أعلن الصدر أنه قد يدعو “سرايا السلام” إلى “حماية المحتجين” ويحثّ في الوقت نفسه المتظاهرين على الحفاظ على مقاربة غير عنيفة – في مسعى ربما لاستعادة مركزه وسط تنامي بروز فصائل قبلية مستقلة. وقد تكون مثل هذه المناورات قد أججت احتمال اللجوء إلى العنف، بخاصةٍ مقابل نفور قديم في أوساط مؤيدي الصدر تجاه طهران، ودعوات قبلية للانتقام، والإطاحة بعبد المهدي، وغياب التغييرات الجوهرية والردود الأمنية الصارمة من قبل بغداد ووكلاء إيران.
خيارات السياسة الأمريكية
خلال السعي إلى وسائل مبتكرة من أجل إبعاد القبائل الشيعية والسنّية مؤقتًا على الأقل عن إيران، يتعين على صناع السياسة معالجة المشاكل الفعلية التي تركّز عليها حاليًا هذه الفصائل. فالولايات المتحدة مثلًا لطالما ركّزت على توفير الحلول الأمنية والعسكرية للحكومة المركزية في بغداد. ولكن من خلال توسعة هذا التركيز ليشمل إعادة تدريب وتجهيز بعض الفصائل التابعة للقبائل الشيعية المحلية، يمكن لواشنطن القيام بما هو أكثر بكثير من أجل إظهار قوتها الناعمة والصارمة خلال مواجهتها قوة إيران.
ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن الخيط الدائم بين المجموعات القبلية الشيعية الساخطة كان غياب الخدمات والوظائف. ففي الماضي، أنشأت العديد من القبائل شبكات المحسوبية الخاصة بها ضمن الحكومة العراقية بغية تلبية تلك الحاجات، ولكن يتمّ إبقاء هذه المجموعات خارج الحكومة على نحو متزايد الآن. من جهتها، لم تقم شبكات المحسوبية الإيرانية المتنامية بالكثير من أجل تلبية هذه الحاجات. وفي ظل بيئة سياسية مماثلة، يمكن لمساعدة أمريكية منفذة بشكل صحيح أن تقوم بالكثير، وبخاصةٍ من خلال منظمات غير حكومية أوروبية ودولية ومحلية خاضعة للتدقيق تركّز على تدريب الشخصيات القبلية في الحكم وتوفير الخدمات وتقديم معدات البنية التحتية الضرورية. ويتطلب مثل هذا المسعى تركيزًا أدق في واشنطن، لا يقتصر على المستوى الاستراتيجي الكبير فحسب بل يكون على مستوى المدن والقرى.
أخيرًا، يتعيّن على المسؤولين الأمريكيين الاعتراف بأن المنشورات والبرامج التلفزيونية العربية لا تتطرق إلا نادرًا إلى المشاكل القبلية. ومن شأن تصعيد هذه المسائل والإضاءة عليها في وسائل إعلام مستقلة قائمة في/مدعومة من الولايات المتحدة على غرار “الحرة العراق” أن يمنح القبائل صوتًا إضافيًا. كما يمكنه أن يُظهر أن تدخل الولايات المتحدة أخف وأكثر مراعاة من مقاربة إيران المتشددة والتي غالبًا ما تكون غير مجدية.
معهد واشنطن