على الرغم من نجاح حركة الاحتجاج، تحديدا في موجتها الثانية التي بدأت في 25 تشرن الأول/ أكتوبر، في أن تتحول إلى حراك مجتمعي حقيقي، جغرافيا عبر امتدادها إلى محافظات عديدة، وعدديا عبر المشاركة الواسعة لقطاعات واسعة من المجتمع، بعيدا عن معضلة الهويات الفرعية، تحديدا في بغداد. فضلا عن نجاحها في تطوير خطابها ليكون معبرا عن آمال وطموحات المجتمع العراقي ككل، وهو ما اكسبها تأييدا ودعما غير محدودين، نجح إلى حد كبير في تجاوز حقيقة عدم مشاركة المحافظات التي توصف بالسنية، او محافظات إقليم كردستان الثلاثة في حركة الاحتجاج لأسباب موضوعية. إلا أن «الوحدة» التي أظهرها كارتل الدولة/ السلطة في مواجهة هذا الحراك، والقرار الصريح الذي اتخذه في عدم الاستجابة إلى أي من مطالب المحتجين الجوهرية، والذي عكسته طبيعة التشريعات والإجراءات التي اتخذها هذا الكارتل، مجتمعا، لتكريس الوضع القائم، وتمنحه صفة الاستدامة! يفرض على حركة الاحتجاج، خاصة بعد مرور أكثر ما يقرب من شهرين على انطلاق موجتها الأولى في الأول من تشرين الاول/ أكتوبر، مجموعة من التحديات التي يجب التعاطي معها بعقلانية.
التحدي الرئيسي هو تحدي القيادة، فعلى الرغم من انه لم يكن من المنطقي الحديث عن قيادة موحدة لحركة احتجاج كانت مادتها الأساسية المواطنين المحبطين والغاضبين مما آلت اليه الأوضاع في العراق، او الحالمين بعراق مختلف، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي، وفضائها الحقيقي والافتراضي، أداتها الرئيسية للتنسيق المتعلقة بالمكان والزمان بشكل أساسي، من دون ترتيبات محددة بشأن طبيعة المطالب باستثناء فكرة الاحتجاج نفسها. تماما كما حركات الاحتجاج السابقة، بداية من مظاهرات شباط/ فبراير 2011، وسلسلة الاحتجاجات اللاحقة التي بدأت بالشكل نفسه تقريبا. على ان هذه الحقيقة لم تمنع وجود «خطط» متفق عليها، كانت نتاجا لخبرة المحتجين انفسهم في التعاطي مع تكتيكات الأجهزة العسكرية والأمنية لمواجهتهم! فعلى الرغم من «القرار» المعلن بان يكون يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر موعدا للتجمع، إلا ان بعض المحتجين، وبسبب خبرتهم السابقة، استبقوا موعد الاحتجاج وسيطروا ليلا على بناية «المطعم التركي» المشرف على ساحة التحرير ومقترباتها بشكل كامل، وهو ما منحهم القدرة على مراقبة تحركات القوات العسكرية والأمنية بشكل كامل، وفي المقابل أفقد تلك القوات احد أهم وسائلها للسيطرة والمراقبة! كما أن رصد وتحليل خطة الانتشار الأفقي، فيما يمكن تسميته بالصراع على الجسور، التي لجأ اليها المحتجون، بمرونة عالية، فرضت على القوات الأمنية توزيع جهدها على امتداد هذه الجسور ومقترباتها، بداية من جسر الجمهورية، ثم جسر السنك، وجسر الأحرار. او المحاولة الوحيدة للوصول إلى جسر باب المعظم، وعدم تكرارها لاحقا، إن ثمة «إدارة» لهذه التكتيكات، وان الأمر ليس مجرد قرارات عفوية! ولكن هذا لا يعني مطلقا أننا نتحدث هنا عن «قيادة» قادرة على فرض «أوامرها» على الجميع، تحديدا الغاضبين الراديكاليين، والفوضويين، الذين يلجأون إلى العنف المضاد ضد عنف القوات العسكرية والأمنية، او حتى العنف غير المسيطر عليه كما جرى في الإعدام الميداني خارج إطار القانون الوحيدة التي حدثت في ساحة الوثبة قبل أيام، والتي استغلت بشكل لا أخلاقي من كارتل الدولة/ السلطة ومريديه من أجل مزيد من الشيطنة لحركة الاحتجاج.
«الوحدة» التي أظهرها كارتل الدولة/ السلطة في مواجهة هذا الحراك، والقرار الصريح الذي اتخذه في عدم الاستجابة إلى أي من مطالب المحتجين، والذي عكسته طبيعة الإجراءات التي اتخذها هذا الكارتل، مجتمعا، لتكريس الوضع القائم
ولكن في مقابل هذا التنظيم العملياتي، كان ثمة عجز حقيقي عن توحيد الخطاب، ولو بالحد الأدنى، وهذا ما بدا واضحا من خلال البيانات والمواقف المتباينة، التي تنسب للمحتجين، من دون وجود إمكانية حقيقية للتحقق منها، مثل التورط العبثي في مسألة «ترشيحات» رئيس مجلس الوزراء، التي تضع حركة الاحتجاج في تناقض حاد، بين ان تكون حركة لتغيير الوضع القائم الذي عكسه مطلبها الرئيسي بإسقاط النظام، وبين أن تكون مجرد طرف في لعبة كارتل الدولة/ السلطة الذي يريد تقزيم هذه المطلب بمجرد استبدال شخص رئيس الوزراء بشخص آخر مع بقاء المنظومة الزبائنية المنتجة له نفسها!
لقد نجحت حركة الاحتجاج حتى اللحظة نجاحا باهرا، وغير متوقع، اعتمادا على الكتلة الصلدة التي تديم هذه الاحتجاجات، على الرغم من فاتورة الدم الغالية التي دفعتها في سبيل ذلك. ولكن معضلة القيادة ستبقى عاملا حاسما في تحويل هذا الحراك إلى فعل سياسي قادر على الوصول إلى أهدافه. إن فكرة أن عدم وجود قيادة معلنة لحركة الاحتجاجات يمكنها أن تكون وسيلة للتخلص من ملاحقة القوات العسكرية والأمنية لهم لا تبدو منطقية، فالجميع يعلم أن هذه الساحات، وبسبب من طبيعتها، مخترقة من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة، وهذا ما بدا واضحا من خلال لجوء كارتل الدولة/ السلطة إلى استهداف هؤلاء بشكل مباشر خلال المواجهات، او اعتماد سياسة الاعتقالات، والإخفاء القسري، والإعدام خارج نطاق القانون، للكثير منهم. وبالتالي بات ضروريا ان تعلن ساحات الاحتجاج عن «قادتها»، الذين يمكنهم أن يتفقوا فيما بينهم على مجموعة مبادئ عامة تمثل المطالب الرئيسي لهذا الحراك، بعيدا عن تبايناتهم واختلافاتهم، على الأقل لكي تستطيع أن تدير حوارا مع كارتل الدولة/ السلطة.
على سبيل المثال لا الحصر، يمكن الاتفاق على رفض أي حكومة تنتج بالآليات نفسها التي أنتجت الحكومات السابقة، واشتراط حكومة مصغرة مؤقتة، تشكل من مستقلين خارج هيمنة وسيطرة كارتل الدولة/ السلطة، مهمتها الأساسية إدارة انتخابات مبكرة، خلال مدى زمني محدد. ويمكن لهذا المطلب، الذي يحظى بشبه إجماع، ان يكون مدخلا لهكذا قيادة، وهكذا حوار.
في كل حركات الاحتجاج التي شهدها العالم، من تونس ومصر، إلى الجزائر وهونغ كونغ، بدا واضحا أنه من دون تقنين حركة الاحتجاج، من خلال إيجاد قيادة تدير الحوار مع النظام السياسي، يمكن للفصائل السياسية الأكثر تنظيما المشاركة في حركة الاحتجاج أن تستثمرها لمصلحتها الحزبية بشكل صريح (حالة تونس ومصر)، او ان تبقى حركة احتجاج «طوباوية» قادرة على إدامة نفسها، ولكنها في الوقت نفسه عاجزة عن تحقيق أي أهدافها الجوهرية (حالة الجزائر وهونغ كونغ).
القدس العربي