غداً الأربعاء، 25 ديسمبر/ كانون الأول 2019، سيكون قد مضى على الحراك الشعبي في العراق شهران، سقط فيهما نحو ستمائة مدني عراقي برصاص قوات الأمن والمليشيات، بالإضافة إلى نحو عشرين ألف مصاب، بعضهم أصيب بإعاقات دائمة. ومع ذلك، ما زال الحراك نشطاً وثورياً ورافضاً كل ما تقوم به السلطة الحاكمة في بغداد ومليشياتها من مناوراتٍ لغرض إسكات المحتجين.
صحيحٌ إلى الآن، أنه لا يبدو أن الكثير قد تحقق بالنسبة إلى ما يطلبه المحتجّون. ولكن لمن يعرف العراق وحاله قبل ثورة تشرين، يدرك جيداً أن كثيراً تحقق، ولعل أول ما تحقق هو استعادة المبادرة من يد السلطة التي جاء بها المحتل الأميركي عام 2003 بعد إسقاط النظام، وإعادة اللٌّحمة الوطنية التي سعت أحزاب (وسلطة) ما بعد الاحتلال إلى قبرها، وإنبات الطائفية النتنة محلها. ولعل أيضاً مما تحقق، حتى اللحظة، بالنسبة إلى هذا الحراك الشعبي في العراق، هو ذلك الوعي الذي فاق التصورات، فقد بات العراقي اليوم يخرج منتصب القامة، بلا خوفٍ أو وجل، على الرغم من كل أساليب القمع، ليعلنها مدوية، “أريد وطن”، و”إيران برّا برّا بغداد تبقى حرّة”.
كل يوم يمضي على هذا الحراك تفقد إيران واحدةً من أوراقها في العراق. فبعد هيمنةٍ وتغلغلٍ ونفوذٍ استمر أكثر من 15 عاماً، باتت إيران اليوم مكروهة شعبياً، بل لا مغالاة في القول إن
“في كربلاء، تحولت قنصلية إيران إلى تنّور يلقي فيه أهالي المدينة غضبهم احتجاجاً وتنديداً بالتدخل الإيراني السافر”مقياس وطنية العراقيين اليوم يحدّده ريختر كره إيران، وهو أمرٌ ما كان له أن يتحقّق، لولا هذه الثورة المباركة التي كشفت كل أوراق اللعبة، وأولها الدور الإيراني الخبيث في العراق، فبعد أن باتت إيران، في نظر غالبية العراقيين، عدواً، بدأت أوراقها في العراق تحترق. فقد قرّرت الناصرية، المدينة الجنوبية، أن تحرّر نفسها من السيطرة الإيرانية، فما كان لها إلا أن هبّت، بشبابها ونسائها وشيبها، لحرق كل مقرّات الأحزاب الموالية لإيران. وقرّرت كربلاء أن تكون الرسالة أبلغ، فكان أن تحولت قنصلية إيران إلى تنّور يلقي فيه أهالي المدينة غضبهم احتجاجاً وتنديداً بالتدخل الإيراني السافر. وكذا الحال في مدينة النجف، وللمدينتين دلالة كبيرة ومكانة أكبر لدى شيعة العراق والعالم.
ليس هذا فحسب، فبعد أن سقطت إيران سياسياً من خلال سقوط الأحزاب العراقية الموالية لها، جاء الدور على وجودها العسكري، المتمثل بالمليشيات التي رعتها وموّلتها إيران سنوات طويلة، هذه المليشيات التي حركتها إيران في لحظةٍ مجنونةٍ لتفتك بالمتظاهرين، علّها تنجح في إعادتهم إلى بيت طاعتها، ولكن على الرغم من قمعها ونيرانها وسقوط عشرات من الشباب بين شهيد ومصاب ومختطف، إلا أن العراقيين مستمرّون بالتحدّي، ما يعني أن قوة إيران العسكرية أيضاً باتت مهدّدة في العراق.
واقتصادياً، نجحت الحملات العراقية الداعية إلى مقاطعة البضائع الإيرانية في إصابة تجارة طهران بمقتل، الأمر الذي استدعى إغلاق أكبر مصانع الألبان الإيرانية في النجف، وأيضاً إغلاق شركات إيرانية مكاتبها في مختلف مدن العراق، بل الأكثر من ذلك لجوء تلك الشركات إلى أساليب التحايل، كتغليف بضاعتها بأغلفةٍ تدّعي أنها عراقية، من أجل بيعها في سوق عراقية باتت ترفض كل ما هو إيراني.
وعلى الرغم من أن إيران تدرك جيداً أنها تخسر، في كل يوم جديد للثورة، مزيداً من نفوذها في العراق، إلا أنها ما زالت تمنّي النفس بإعادة العراقيين إلى بيت طاعتها. فما زالت مناوراتها مستمرة. ففي كل مرة تطرح اسماً جديداً لرئاسة الوزراء خلفاً لعادل عبد المهدي الذي أسقطه الحراك الشعبي، تجد أصوات التحرير الرافضة هذا المرشح أو ذاك، وتجد عزماً عراقياً لا يلين بضرورة أن يعاد النظر بكامل العملية السياسية القائمة منذ 2003.
نعم، قد يبدو الأمر شبه مستحيل، ولكن من يرى ويتابع إصرار شباب التحرير في بغداد، وشباب بقية الساحات في المدن الأخرى، يدرك جيداً أن لا مستحيل يقف أمام إرادة الشعوب. ورهان إيران وأحزابها في العراق على النَّفس الطويل، والشتاء القارس، لإسكات أصوات المحتجين فشل، وبالتالي، سنكون، في الأيام المقبلة، أمام مواجهةٍ من السلطة قد تكون أكثر عنفاً. وبالتأكيد ستكون لصالح إرادة شعب وجد نفسه موحّداً أمام سلطةٍ باغية، سرقت وقتلت ونشرت الدمار والخراب والطائفية 16 عاماً، حتى تحول العراق إلى واحد من أسوأ البلدان.
ستحاول إيران بالتأكيد أن تتشبث بوجودها في العراق، ولكن عليها أن تدرك أن هناك إرادة شعبية بضرورة أن تلتزم حدودها في تعاملها مع عراق ما بعد تشرين 2019، خصوصاً أنها في وضع إقليمي ودولي لا يساعدها على مواصلة المكابرة والاستمرار بمنهجها الدموي.
العربي الجديد