من الصعب، ونحن على قرب يوم من بداية العام الجديد، التهرب من مراجعة أحداث العام الماضي واستشراف ما ستحمله الأيام المقبلة، بالنسبة الى الانتفاضة العراقية، الموشكة على دخول شهرها الرابع، خاصة بعد أن تحقق، فعليا، ما كان الجميع يتوقعه في تحويل مواقع في البلد، الى ساحات مناوشات واقتتال بين أمريكا وإيران. من ناحية المراجعة والتقييم الموضوعي، لا يختلف اثنان في أن الانتفاضة السلمية، حققت تغييرات، ذات أهمية كبرى، محليا وإقليميا، على الرغم من القمع الوحشي الذي تواجهه، يوميا.
محليا، أطلق الشباب الخريجون، والعاطلون عن العمل، والمهمشون صرخة احتجاجهم الأولى مطالبين بحقوقهم واستعادة وطنهم، بعد أن أدركوا أن المطالبة الجزئية المحصورة بمصلحة هذه الفئة أو الطائفة أو الشريحة المعينة دون غيرها لم تعد تجدي، وأنهم وصلوا قاع الطموحات والآمال التي يعيشها الشباب في معظم البلدان، فكيف ببلد غني كالعراق؟ وأدركوا أن انتماءهم الى حزب طائفي أو ميليشيا مسلحة أو الجلوس بانتظار تحقيق وعود العمل، بات مهزلة المهازل، واستهانة بعقولهم من قبل أحزاب فاسدة وحكومة تتحكم بها الميليشيات.
جاء هذا الإدراك بعد 16 عاما من بضاعة «الديمقراطية» والتخلص من المظلومية، فلا غرابة أن يختار المنتفضون الوقوف بعيدا (كالخائف من عدوى الإصابة بمرض خبيث) عن الأحزاب التي ساهمت بالعملية السياسية التي أسسها حاكم الاحتلال الأمريكي بول بريمر. رافضين تعيين أي شخص، كرئيس وزراء للحكومة الانتقالية، إذا كان ينتمي الى أي حزب، مهما كان، عمل ضمن إحدى حكومات الاحتلال منذ عام 2003 وحتى إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة في الشهر الماضي. يبين اتخاذ المنتفضين قرارا كهذا، انعدام الثقة بالأحزاب مجتمعة، مما يجردها من شرعية وجودها كممثلة للشعب، بكل مواطنيه، يتوجب عليها أن تلعب دورا فعليا في نيابة الشعب، وأن تكون عوامل فاعلة ذات أهمية مركزية في نظام ديمقراطي.
محليا، أيضا، تمكن المنتفضون، ذكورا واناثا، من تقديم الإجابة على سؤال طالما طرح، على مدى سنوات الاحتلال الأمريكي والحكومات الميليشياوية، المُلفعة بالسواد، وهو: أين هي المرأة العراقية؟ خلال الانتفاضة، وفي فترة وجيزة نسبيا، استعادت المرأة مكانتها المعتادة، جنبا الى جنب مع الرجل، مطالبة بالوطن والحقوق المهضومة، منادية: نازلة آخذ حقي وعراق… عراق، كلنا عراقية.
إقليميا ودوليا، هتف المنتفضون ضد التدخل الإيراني بميليشياته وأمريكا بقواعدها العسكرية ومرتزقتها. أدرك المنتفضون أنهم لن يستعيدوا الوطن إذا لم يكن مستقلا ويتمتع بالسيادة. وأن تحقيق مطلب الوطن يقتضي التخلص من الاستبداد الداخلي والتدخل الخارجي معا.
هناك نقاط أساسية يواصل المنتفضون التركيز عليها، وهي: اصرارهم على البقاء في الساحات والشوارع، مؤكدين في تصريحاتهم « حتى ننال حقوقنا» و«وفاء لدم الشهداء»
لم تمر هذه المنجزات بسهولة. دفع المنتفضون ثمنا غاليا جدا لتحقيق جزء من حملة التنظيف الداخلية والخارجية. بالمقابل تكاتفت قوى الفساد والاستبداد الداخلي والخارجي، متشبثة بمصالحها وما تعتبره غنيمة حرب من جهة، وساحة لتسوية النزاع والمفاوضات السرية، خاصة، بين أمريكا وإيران، من جهة أخرى. فشهدت ساحات التحرير استماتة متلازمة المستبد – المحتل في الدفاع عن وجودها ومصالحها المهددة. قتلت مئات الشهداء وجرحت عشرات الآلاف واعتقلت وعذبت آلاف المتظاهرين. استخدمت كل ما يتوفر لديها من قتلة وأسلحة محرمة ضد متظاهرين سلميين. وحين رأت اصرارهم وصمودهم على مواصلة الطريق الذي شرعوا بالسير فيه، لجأت الى حملة الاختطاف أولا والذي استهدف النساء لمنعهن من المساهمة بأي نشاط كان، ثم القتل بواسطة كاتم الصوت ثانيا. وقد فاقت أعداد ضحايانا ما سقط في أي بلد آخر في العالم شهد الانتفاضة في العقد الأخير من السنين، سواء بالعدد أو بالنسبة لعدد السكان.
إلى جانب الاستهداف الجسدي للمنتفضين، تستعين متلازمة المستبد – المحتل بمواقع التواصل الاجتماعي، لترويع المنتفضين واستهدافهم نفسيا، عبر حملات تشويه منهجية تتهمهم بالعمالة لقوى خارجية، الكيان الصهيوني وأمريكا، مثلا. يساهم في حملات التشويه والتشكيك بطبيعة الانتفاضة عدد من الأكاديميين والمحللين، إضافة، الى عدد من المؤسسات البحثية التي تدعي الموضوعية. يقوم السذج بتدوير ومشاركة هذه المقالات والبحوث، بدون التأكد من صحة مصدرها وتوثيقها. تُنشر هذه الرسائل لترويع وتخويف ومنع الناس من الانضمام الى المنتفضين، او دفع الموجودين على المغادرة. ولا تخلو مواقع التواصل من قنوات بث (يوتيوب)، تبث رسائل تتضمن « فضح» هذا المحتل ضد ذاك، ينفذها أشخاص يرون في أمريكا الخلاص من « الظلامية الإسلاموية»، أو يرون في إيران الخلاص من « الشيطان الأكبر». كلا الطرفين يدعيان الوطنية وانقاذ العراق.
إزاء هذا كله، ما الذي يُعَول عليه المنتفضون، خاصة، مع توقع زيادة الضغط السياسي عليهم للوقوف بجانب « الحكومة» وإلا اُتهمت بالخيانة؟ «الحكومة» التي صارت تُقدم نفسها باعتبارها «العراق» بعد أن استهدف طيران الاحتلال الأمريكي مواقع ميليشيا حزب الله التابع للمحتل الإيراني قبل يومين. فهل «الحكومة» أو مليشيا حزب الله، هي العراق حقا؟
هناك نقاط أساسية يواصل المنتفضون التركيز عليها، وهي: اصرارهم على البقاء في الساحات والشوارع، مؤكدين في تصريحاتهم « حتى ننال حقوقنا» و «وفاء لدم الشهداء». نيل الحقوق يعني في حكومة انتقالية، نزيهة، لم يخدم أفرادها أي احتلال، أمريكيا كان أو إيرانيا أو مُنزلا من المريخ (حسب تعبيرهم)، واجبها الأول هو تمثيل الشعب العراقي، كله، ومحاسبة المسؤولين عن جرائم القتل، الذين يعرفهم المنتفضون ويُنكر النظام معرفتهم. أن شروط المنتفضين غير مستحيلة، وممكنة التحقيق، إذا ما توفرت الإرادة السياسية الوطنية، وتم وضع حد لمنظومة المحاصصة الطائفية والفساد، التي نخرت الدولة بكل مؤسساتها وتسربت، تدريجيا، الى بنية المجتمع، لتؤسس طبقة ساسة الأحزاب الحالية. كما شَرعت الأبواب للإرهاب، وكل من يرغب بقضم جزء من بلد، أصبح مفهوم السيادة فيه نكتة سمجة، أو قطعة قماش مهلهلة، تُستخدم، كما هو الدستور، لمسح الأوساخ السياسية. وأصبح كل مواطن مطالبا بإثبات وطنيته، عن طريق أما ان يكون مع أمريكا اذن هو ضد إيران، أو مع إيران اذن هو ضد أمريكا، متعامين عن حقيقة أن الاثنين مُحتلان للوطن، وإن بنسب متفاوتة.
في روايته الأخيرة، المعنونة «الأصل»، يحاول الكاتب الأمريكي المعروف دان براون، الإجابة على اثنين من أهم الأسئلة التي يواجهها الانسان عن الحياة: «من أين أتينا؟» و «أين نحن ذاهبون؟». يحيلنا السؤال الأول الى ضرورة معرفة أسباب الانتفاضة لأن «أولئك الذين لا يعرفون الماضي محكوم عليهم بتكراره»، كما يذكرنا الكاتب والفيلسوف الاسباني جورج سانتايانا، أما الإجابة على السؤال الثاني، فإنه محكوم بالأمل الذي يراهن عليه المنتفضون، ونحن معهم.
القدس العربي