شمل تسلسل الأحداث الأخيرة في العراق هجوماً نفذته ميليشيات شيعية ضد أهداف أمريكية، أوقع بخلاف الماضي إصابات، هجوماً أمريكياً على أهداف تعود لـ “كتائب حزب الله” وهي ميليشيا شيعية – عراقية تدعمها إيران، وهجمات على السفارة الأمريكية في بغداد. كل هذه تصعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران. وتتهم الإدارة الأمريكية والرئيس ترامب شخصياً النظام الإيراني بالمسؤولية عن التصعيد، بينما الزعيم الإيراني، علي خامينئي، يلقي على الولايات المتحدة بالمسؤولية عن العنف في العراق وينفي الدور الإيراني فيه. وبخلاف التطورات في منطقة الخليج، حيث وجهت الهجمات ضد أهداف للسعودية وغيرها من الدول، باستثناء إسقاط المسيرة الأمريكية، فإن الأحداث في ساحة العراق موجهة لجباية ثمن من الولايات المتحدة أيضاً، وإن كان دون أخذ المسؤولية عنها، استناداً إلى التقدير بأن الرئيس ترامب غير معني بالتصعيد. وفي الوسط هناك القيادة العراقية التي تواجه في الأشهر الأخيرة احتجاجاً شعبياً واسعاً، تسبب بأزمة سياسية لا تبدو نهايتها قريبة ويحدق بها تهديد حقيقي على استقرار الدولة.
مصالح وأهداف الجهات المعنية:
إيران تحت ضغوط تنبع من آثار سياسة “الحد الأقصى من الضغط” للإدارة الأمريكية، ومن المظاهرات المتسعة في العراق في الأشهر الأخيرة، التي تجري أيضاً بدعوة شعبية لطرد النفوذ الإيراني من الدولة. يرى النظام الإيراني في الوجود الأمريكي بالعراق مصدراً لتشجيع المظاهرات ضد إيران، مثلما هو أيضاً تهديد أمني على حدود إيران. وعليه، فإن احتدام المواجهة بينها وبين الولايات المتحدة في العراق يخدم مصلحة النظام الإيراني في حرف الانتباه العراقي العام نحو “عدو” آخر.
أما النظام الإيراني فيتصدى في الأشهر الأخيرة أيضاً لتحديات ثقيلة الوزن من الداخل والخارج، يمكن أن تكون لها آثار على الاستقرار الداخلي ومحيطه الاستراتيجي. ومن إجمالي الخطوات التي اتخذها النظام، يتبين بوضوح أن طريقة العمل التي اختيرت هي إبداء التصميم في ظل الإيضاح للإدارة الأمريكية بأن ليس له أي نية للاستجابة لمطالبها، وأنه مستعد لأن يرد بـ “الحد الأقصى من القوة” كي يجسد للإدارة ثمن التدهور. كل هذا، في ظل الجهد للامتناع عن الوقوف في الجبهة العراقية. فبعد كل شيء، يشكل العراق ساحة مريحة للعمل، إذ توجد فيه قوات أمريكية، إلى جانب قدرات عمل عديدة ومتنوعة لإيران في هذه الدولة من خلال حلفائها – الميليشيات الشيعية. وفي الوقت نفسه، في نية النظام الإيراني أن يواصل (أغلب الظن في الأيام القريبة القادمة) تراجعه عن التزاماته ضمن الاتفاق النووي، ما يعني تقصير الجداول الزمنية كما تقررت في الاتفاق نحو إنتاج مادة مشعة، بل وربما التقدم إلى التخصيب لمستوى عسكري في حالة اتخاذ قرار لعمل ذلك.
الولايات المتحدة في معضلة متزايدة الاحتدام: من جهة تتمسك الإدارة بسياسة الضغط بالحد الأقصى على إيران، على أمل أن “تستسلم” هذه لمطلبها وتعود إلى المفاوضات في مسألة النووي؛ ومن جهة أخرى، ليس لها مصلحة (مثلما يكرر الرئيس ترامب حتى في الآونة الأخيرة) في الصدام العسكري مع إيران، وبالتأكيد عدم الانجذاب إلى مواجهة عسكرية مع ميليشيات مسلحة في أراضي العراق. فضلاً عن ذلك، تقدر الإدارة بأنه لا توجد أي ضمانة، حتى في حالة المواجهة، بأن تستسلم إيران في النهاية وتستجيب للمطالب. إن دخول الولايات المتحدة لسنة الانتخابات، والذكريات المريرة من التدخل في العراق، وكذا الفهم بأنه لا يوجد “حل سحري”، كل هذه تلزم الإدارة بالحذر من ردود أفعالها على التحدي الذي تقف أمامه. وبالمقابل، فإن صورة الضعف والضرر بمكانة وقوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه قد تنطوي هي الأخرى على أثمان في الساحة الأمريكية الداخلية من ناحية الرئيس ترامب، ولا سيما في حالة استمرار إصابة مواطنين أو رموز أمريكية في العراق بخاصة، وفي المنطقة بعامة.
في العراق، تعدّ القيادة أيضاً، وبقوة أكبر، بين المطرقة والسندان؛ فمن جهة، إيران لا تعتزم التخلي عن تدخلها وتحكمها في سياسة بغداد، وعن تسليح الميليشيات المؤيدة لإيران التي تعتزم استخدامها سواء في الساحة الداخلية العراقية أم في ضوء التحديات الخارجية، بخاصة في سوريا، في وجه إسرائيل، وكذا في سيناريو مستقبلي في لبنان. ومن جهة أخرى، لا تزال القيادة العراقية بحاجة إلى المساعدة الأمريكية في صراع لم ينته بعد ضد “داعش”. يذكر أن القوات الأمريكية هي في العراق بحكم دعوة من الحكومة العراقية. إضافة إلى ذلك، يخشى النظام العراقي من تحول المناوشات في العراق بين الولايات المتحدة وإيران إلى واقع مستمر. من جهة أخرى، فإن الأحداث الأخيرة كفيلة بأن تشكل لبغداد وسيلة لحرف انتباه الجمهور المحتج ضد الفساد السلطوي، والمطالب برحيل النخبة السياسية وتغيير طريقة الحكم. نشدد هنا على أنه للميليشيات الشيعية نفسها مصلحة في استخدام الخطوات تجاه الأمريكيين في محاولة لتغيير جدول الأعمال الداخلي في العراق، بما في ذلك تشديد المطالبة برحيل الولايات المتحدة عن الدولة. والمظاهرات العاصفة حول السفارة الأمريكية في بغداد تخدم هذه المصلحة. وعلى أي حال، بعد الهجمات الأمريكية الأخيرة، تعاظمت الدعوات التي سبق أن طرحت في السنة الأخيرة، بما في ذلك من جانب محافل عراقية رسمية لترحيل القوات الأمريكية عن الدولة.
إن ردود الفعل في الولايات المتحدة وإيران على المجريات التي في العراق تشهد على أن الطرفين ليس لهما مصلحة في التدهور إلى مواجهة مباشرة. ومع أن الناطقين بلسان الإدارة يواصلون تهديد إيران، إلا أنهم يسعون لعرض الهجمات في العراق في سياق الرد على الإصابة للأمريكيين. وإيران أيضاً، مثلما في الماضي، تحرص على التشديد على أنها غير مسؤولة عن أعمال المليشيات الشيعية. ومع ذلك، واضح للطرفين أن الأحداث قد تؤدي إلى مناوشات مباشرة بينهما في العراق وخارجه. إن القيادة في طهران تعي بأن التدخل الإيراني ليس محبوباً لدى كثيرين في العراق، وعليه، فمعقول أن تعظم المواجهة المتسعة المطالبة بترحيل النفوذ الإيراني من الدولة أيضاً.
عملياً، يمكن أن نرى في الأحداث الأخيرة في العراق تحديداً تعبيراً عن الضائقة الإيرانية، مثلما هي أيضاً الضائقة الأمريكية. فالأحداث تجري بينما يجد الطرفان صعوبة في تحقيق أهدافهما الاستراتيجية: الإدارة الأمريكية فشلت حتى الآن في أن تفرض على إيران تغييراً لسياستها سواء في سياق النووي أم في السياق الإقليمي في الشرق الأوسط، بينما إيران لا تنجح في تخفيف حدة التمسك الأمريكي بالعقوبات الاقتصادية كوسيلة ضغط مركزية على إيران.
على هذه الخلفية، لا يبدو أن الهجمات الأمريكية تعكس تغييراً في الميل في السياسة الأمريكية الأساسية المعارضة لتعميق التدخل في الشرق الأوسط، وبالأساس الاستخدام للوسائل العسكرية التي قد تتصاعد إلى مواجهة عسكرية واسعة. يحقق رد فعل واشنطن أقوالاً صريحة بشأن رد على المس بالجنود أو المواطنين الأمريكيين. وعليه، فالحدث يدور حالياً بقدر أكبر عن اضطرار في الرد على تطورات الميدان، وليس عن تغيير في النهج. معقول أن تتطلع الإدارة إلى الامتناع عن الانجرار إلى مواجهة عسكرية، والتي من شأنها -رغم التفوق الجوي للولايات المتحدة- أن تتدهور إلى حرب عصابات ضد أهداف أمريكية في العراق، ودون أن تكون للولايات المتحدة شرعية عراقية جماهيرية ومن جانب القيادة، للرد. مشكوك أن يشكل الهجوم الأمريكي في العراق مقدمة لخطوة عنيفة أكثر ضد أهداف إيرانية و/أو لحلفائهم، وبالتأكيد إذا لم يقع مزيد من الضحايا الأمريكية في الأرواح.
ستواصل إيران من جهتها السير على حبل دقيق بين المصلحة في جباية ثمن من الولايات المتحدة (وإن كان دون العمل مباشرة تجاهها، وبالتالي ساحة العراق مريحة من ناحيتها) والخوف من أن تجبر خطوة إيقاع ضحايا أمريكيين الرئيس ترامب إلى توسيع الخطوات العسكرية ضد إيران مباشرة أيضاً، إلى جانب الخطوات ضد الميليشيات الشيعية. مثيرة للاهتمام في هذا السياق تصريحات السناتور ليندزي غرام، المقرب من الرئيس ترامب، الذي ألمح إلى إمكانية أن ترد الولايات المتحدة إذا ما وقعت لها إصابات أخرى في المكان الأكثر إيلاماً (لإيران)، ملمحاً بمنشآت مصافي البترول.
مؤخراً، انطلقت في إسرائيل تصريحات حول الحاجة إلى العمل ضد إيران وحلفائها في الأراضي العراقية أيضاً. ولكن، على إسرائيل أن تأخذ في الحسبان بأن الهجوم الأمريكي في العراق لا يبشر بتغيير النهج، والإدارة ستواصل تفضيل الامتناع عن ممارسة ضغوط عسكرية على إيران. على إسرائيل أن تتوقع تعاظم الحساسية في الولايات المتحدة للإصابات الأمريكية في العراق. والتصعيد في العراق كفيل حتى أن يعزز دوافع الرئيس ترامب لتقديم موعد إخراج القوات الأمريكية من الدولة. وعليه، فمن المهم ألا تعتبر إسرائيل كمن يدفع الإدارة نحو العمل بخلاف مصالحها وتعميق المواجهة العسكرية في أراضي العراق. فضلاً عن ذلك، وفضلاً عن الحاجة إلى التنسيق مع الولايات المتحدة للخطوات والنشاطات الإقليمية، فإن إسرائيل تهرف الأهمية الكبيرة لمنع حرف الانتباه الدولي عن استمرار التآكل في الالتزامات الإيرانية تجاه الاتفاق النووي.
القدس العربي