هل كان الاغتيال المستهدف للجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» النخبوي في إيران، أمراً جريئاً أم متهوراً؟ الجواب يتوقف على كيفية انتهاء هذا الفصل من صراع الإرادات بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية الذي دام 41 عاماً. ولكن ذلك لن يكون بالضرورة الكارثة التي أنذر بها بعض النقاد. وقد يَثبُت في النهاية أنه تدبير العناية الإلهية.
إذا كان مقتل “أكبر إرهابي” لطهران يطلق العنان لحرب عالمية غير متكافئة، يضرب فيها وكلاء إيران وخلاياها النائمة الأمريكيين المطمئنين في أهداف ضعيفة في مختلف أنحاء العالم – كالمطارات ومحطات القطار والمراكز التجارية والمستشفيات والمدارس، إلخ. – فسوف يُنظَر إلى قرار الرئيس ترامب بقتل سليماني على أنه أحد أكثر القرارات العبثية والقصيرة النظر وغير المسؤولة التي يكون قد اتخذها رئيس أمريكي على الإطلاق.
وإذا كان قَتْل الجاسوس البارع الغامض والمسؤول في النهاية عن مقتل المئات من أفراد الخدمة الأمريكيين في العراق على مدى العقدين الماضيين سبباً في اتخاذ المرشد الإيراني الأعلى قراراً بقيام «حزب الله» بإطلاق ترسانة الصواريخ والقذائف الهائلة التي يمتلكها ضد المدن والبلدات الإسرائيلية، أو بأن يتم إطلاق مجموعة من الطائرات الصغيرة المسيّرة لتدمير منشآت النفط والغاز في الدول العربية الواقعة على شواطئ الخليج العربي – وهي أعمال انتقامية قد تؤدي إلى حرب إقليمية شاملة – فستُعتبر الضربة على سليماني كواحدة من أكثر القرارات الطائشة والاستفزازية بحماقة التي يكون قد اتخذها أي رئيس أمريكي على الإطلاق.
وهذه السيناريوهات معقولة بشكل مخيف، مع أن مجازفة القيادة الإيرانية بخطر اندلاع حرب شاملة جراء مقتل أحد جنرالاتها، حتى ولو كان ذلك القيادي يتمتع بقدر من الرمزية والقوة مثل سليماني، هي مخالفة لشخصية هذه القيادة التي عادة ما تكون دقيقة ومحتسبة لخطواتها. وفي الواقع، فإن النتيجة الأكثر احتمالاً لمقتل سليماني هي أن ترفض إيران اللجوء إلى الخيارات المروعة، وتنتظر الفرصة الملائمة وتستأنف في النهاية تكتيكاتها في المنطقة الرمادية ضد حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها تحت القيادة الجديدة لـ «فيلق القدس». ومع ذلك، يأمل المرء في أن تكون إدارة ترامب قد أخذت في الحسبان أسوأ النتائج المحتملة في عملية صنع القرار، واتخذت التدابير المناسبة لمنعها وردعها.
ولكن ماذا لو انتهى هذا الفصل من الصراع الأمريكي-الإيراني بشكل مختلف تماماً – أي في التفاوض وليس في المواجهة؟ وماذا لو أن الاستهداف غير المتوقع لسليماني، إلى جانب الهجوم المفاجئ الذي تمّ شنّه في نهاية الأسبوع الماضي على منشآت تابعة لميليشيا «كتائب حزب الله» في العراق، المدعومة من إيران، استعاد قدراً من الردع في مواجهة إيران بعد أن اختارت إدارة ترامب عدم الرد عسكرياً على سلسلة من الاستفزازات التي تصاعدت لأكثر من عام؟ (وتشمل هذه سيل الصواريخ ضد القنصلية الأمريكية في البصرة والسفارة الأمريكية في بغداد، وهجمات على ناقلات نفط في خليج عُمان، والهجوم على المنشآت النفطية السعودية في بقيق وخريص.) وماذا لو استغل المسؤولون الأمريكيون هذه اللحظة للطلب من طرف ثالث موثوق به – كالعمانيين أو السويسريين – اختبار ما إذا كان قادة طهران على استعداد لمبادرة دبلوماسية هادئة لتحقيق ما قاله البيت الأبيض منذ فترة طويلة بأنه هدف حملة “الضغط الأقصى” التي يقودها، وهي: التوصّل إلى اتفاق أفضل وأوسع نطاقاً مع إيران من الصفقة النووية الضيقة التي انسحبت منها الإدارة الأمريكية في عام 2018؟
وفي ظل التوتر الشديد والعواطف المتّقدة، فقد تبدو الفترة التالية المباشرة في أعقاب مقتل سليماني لحظة غريبة لاقتراح انخراط دبلوماسي. إلّا أن هذا التصرف الوقح قد يؤدي إلى إثارة غضب القيادة الإيرانية لدرجة قد يصبح فيها التفاوض مع الشيطان الأكبر، وهو الخيار الذي بدت طهران وكأنها ترفضه في سعيها إلى بسط نفوذها من اليمن إلى بغداد، بديلاً جذاباً لإمكانية المواجهة المباشرة.
وقد يكون من المفيد التعرف على حلقة من فصل سابق من الصراع الأمريكي – الإيراني، وهو: إسقاط الطراد الأمريكي “يو أس أس فينسنس” طائرة مدنية إيرانية في عام 1988، مما أسفر عن مقتل 290 شخصاً. وعلى الرغم من أن ذلك كان حادثاً غير مقصود، إلا أن المأساة أقنعت المؤسس الثوري للجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني، بأن أمريكا كانت على وشك أن تلقي بثقلها بالكامل في دعم صدام حسين في الحرب العراقية – الإيرانية. وخوفاً من مواجهة القوة الكاملة للولايات المتحدة، تقبّل الخميني الأمر على مضض ووافق على وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة، وهي خطوة مؤلمة جداً شبّهها بشرب “كأس من السم”.
ويشير المنطق إلى أنه إذا غضّت طهران النظر عندما واجهت استخداماً غير مقصود للقوة الأمريكية، فهناك احتمالات أكبر بأنها ستغض النظر عندما يكون الاستخدام هادفاً، كما كان عليه الحال بوضوح مع اغتيال سليماني. وبطبيعة الحال، سوف يختبر الإيرانيون ما إذا كانت عملية القتل هي استعراض عضلات لمرة واحدة، مثل الضربة الصاروخية التي أمر بها ترامب ضد منشآت الأسلحة الكيميائية السورية في عام 2017، والتي تبيّن من النظرة إلى الماضي أنها كانت تضليلاً لتغطية سياسة الولايات المتحدة الأوسع المتمثلة في عدم التدخل هناك والتي سمحت لإيران وروسيا بتوسيع نفوذهما. لذا، فإن التحدي الذي تواجهه واشنطن هو أمر معقد وحساس، أي: التخطيط لقرارها لمواجهة أي إجراء انتقامي إيراني بقوة ساحقة، من دون أن يؤدي ذلك إلى إطلاق سيناريوهات الهلاك التي كان يُهدف من عملية الردع الحيلولة دون وقوعها، وفي الوقت نفسه إعطاء إيران مخرجاً دبلوماسياً للمفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق جديد.
وفي هذا الصدد، يضع مقتل سليماني فائدة محتملة أخرى على طاولة المفاوضات إلى جانب رفع العقوبات الاقتصادية في النهاية – وعلى وجه التحديد، التزام الولايات المتحدة بعدم استخدام القوة العسكرية لتهديد آخرين من كبار القادة أو بقاء النظام بحد ذاته. وبالنسبة إلى طهران، سيكون الثمن هو التوصل إلى اتفاق أوسع نطاقاً من الاتفاق النووي لعام 2015، أي اتفاق لا يصحح فقط العيوب والقيود الزمنية لذلك الاتفاق، بل يوسع أيضاً الأجندة لتشمل فرض قيود قابلة للتحقق على كل من برنامج الصواريخ الإيراني والتدريب عليه وتمويله وتسليح الوكلاء والجماعات الإرهابية والميليشيات الشيعية في دول المنطقة.
صحيح أن عام 2020 ليس عام 1988 – فالشعب الإيراني لا يتوق إلى السلام بعد ثماني سنوات من الحرب، كما كان عليه الحال عندما أسقط الطراد “فينسنس” طائرة الركاب، وقد يرى قادته أن إذكاء نيران المظالم يشكّل وسيلة أكثر يقيناً للبقاء في السلطة من تحمل إذلال التفاوض مع ترامب. ولكن إذا كانت القوة الجديدة التي تتمتع بها إدارة الرئيس الأمريكي تعني أن واشنطن وشركاءها ما زالوا ملتزمين بإحباط الأذى الإيراني في المنطقة، فقد تستنتج طهران أن التوصل إلى اتفاق عن طريق التفاوض هو أفضل من المواجهة المفتوحة. ففي النهاية، بالنسبة لنظام يريد أن يتحمل وكلاؤه البعيدون وطأة الهجمات المضادة التي يشنها خصومه، فإن مقتل سليماني ربما شكّل ضربة [موجعة جداً] وقعت على مقربة من الجمهورية الإسلامية.
ولا يمكن إجراء مفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران وفقاً للطريقة التي حاول بموجبها ترامب القيام بذلك حتى الآن، أي باستخدام النموذج الفاشل لكوريا الشمالية الذي يتمثل في عقد اجتماعات قمة وجهاً لوجه، وثنائية، وعلى مستوى القادة. وإذا كانت لمثل هذه المبادرة أي فرصة للنجاح، فإنها ستتطلب دبلوماسية حاذقة وفطنة، وحداً أدنى من الكلام المنمّق (أي: التغريدات) وحداً أقصى من التحفّظ، وخطة عمل منظمة بعناية تشرك حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين والشرق أوسطيين بشكل كامل.
إن القول بأن أي من ذلك لا يُعتبر حتى الآن علامة مميزة تنفرد فيها الفترة التي شغل فيها ترامب منصبه طيلة الأعوام الثلاثة، هو أقل من الواقع. ولكنّ الفرصة كبيرة للغاية – والمخاطر مرعبة – لدرجة تجعل جميع الأمريكيين، الجمهوريين والديمقراطيين، يأملون بأن يكون الرئيس ووزراء حكومته ومستشاريه في السياسة الخارجية والأمن القومي على مستوى هذه المهمة.
معهد واشنطن