تلقى نوري المالكي نائب الرئيس العراقي الاتفاق النووي الإيراني بخطوات عملية، تعزز مكانته لدى الحليف الإيراني عبر الدعوة لتشكيل مشروع إقليمي يؤسس لدول طائفية، لتقوية الجغرافية الشيعية في الفضاء العربي المشرقي، الذي يحتل الشيعة فيه مساحة ضيقة، بما يسمح بكسر الامتداد السني الذي يحيط بإيران في اجزائها الشمالية والشرقية والجنوبية، فالكتلة الشيعية الاثقل في العراق وإيران ما هي في واقع الحال الا اقلية محدودة النطاق، في تكتل سني واسع. وبالتالي فان خطواته انما تستند مباشرة على أيديولوجية طهران المتطرفة، وتتناغم مع اهدافها في التسيد الاقليمي، ووكلائها المدججين بالسلاح، وصولا لإلحاق المنطقة بحكم الولي الفقيه.
ومثل هذه الخطوات ليست مفاجئة، ففي 26/7/2015 هبطت في احدى المطارات الايرانية، طائرة تقل المالكي، في زيارة سرية لم يعلن عنها، للتأكيد على مواقف حزبه وكتلته الداعمة لإيران، استناداً إلى التداعيات الاقليمية والدولية للاتفاق النووي، ما يستلزم سياسة نشطة تتماهى مع دور طهران الاقليمي المرتقب. وبالتعاضد مع حركية الميليشيات التي عمل المالكي على تقويتها في العام 2010، ابان الانتخابات النيابية آنذاك، لتشهد سياساته تحوّلا نحو إيران والحصول على مساعدتها، في إعادة انتخابه، وتشكيله تحالف مستمر معها.
ولعل ما يريده المالكي في حلبة التنافس الحزبي والسياسي، هو الحصول على تعهد إيراني، يمكنه من العودة إلى رأس السلطة في العراق. ويريد ايضا إقامة جبهة عريضة تضم تيارات وقوى متعددة سنية، تعلن الولاء للمرشد الايراني وتتعاطى مع سياساته، وان كان على حساب ناخبيها وبالضد من مصالحهم.
المالكي رجل الطائفية الذي دفع البلاد إلى هاوية الصدام المذهبي، شن قبل ايام هجوما عنيفا على السعودية، معتبرا إياها مهدا للإرهاب والتطرف، وداعيا لوضعها تحت الوصاية الدولية، ويفهم من تحريضه هذا سعي لتشكيل غرفة عمليات على خط المواجهة مع الدول العربية عموما والخليجية على وجه الخصوص، ادراكا منه لاهمية الاتفاق النووي على المكانة الاقليمية الإيرانية.
وأيّاً كانت الظروف السياسية في العراق، فان المالكي اسهم بشكل كبير في تصدع النسيج الداخلي، واوجد النسخة الأحدث والأكثر شراسة لميليشيات طائفية لا تختلف في نهجها ووحشيتها عن “داعش” وجرائمه. فالمنطق القائم على التنافس حول “احقية من يحكم”، تأسس على الغاء الآخر، وتبرير ما يرتكب من اعمال وحشية ضده، معبرا عن انتقائية تؤمن بـ”نظرية المؤامرة” التي تهدف إلى إسقاط التجربة الشيعية في العراق بقيادة أطراف سنية.
وبالتالي فانه ينظر إلى استهداف الشيعة بانه ثابت يمارسه الآخر، لتكون الحدود بينهما على درجة من الصلابة، ما يعني البقاء في دائرة العداء والمواجهة، والابقاء على هذا التجاذب يشي بإعادة إنتاج الصراع، وهو ما يعززه المالكي ويروج له.
خيار التمسك بالابوية الخلاصية لإيران، والذي ابداه المالكي يؤكد على محدودية مساحة التفاعل مع الآخر، والتسليم بخوض الصراع إلى منتهاه وان كان صعبا ومكلفا، دافعا نحو الالتصاق بالجماعة ايا كانت طائفية او اثنية دون المجتمع الواحد الجامع.
وما زيارة المالكي السرية هذه، الا للتأكيد على سعيه لجعل الاقليم تحت وصاية مباشرة من طهران، بما يسمح لها بتعطل الحكم في دوله، والاستيلاء عليها بالعنف والترهيب، والسيطرة عليه باسم الحفاظ على الأمن. وتكرارا لتجربة ميليشيات “حزب الله” اللبناني. وهو الذي منح سطوة خاصة لدولة الولي الفقيه في العراق، منها دعمه لها في مواجهة ثقل العقوبات على البرنامج النووي، وإعلاء شأن ميليشيات مسلحة لا تخفي ولاءها إيران، واسناد نظام بشار الأسد والسماح لإرساليات الأسلحة والتجهيزات والإمداد البشري والمالي لكي تمر عبر العراق، فضلا عن تشجع دخول المليشيات الطائفية إلى الأراضي السورية للمشاركة في القتال إلى جانب قوات الأسد.
ويكشف تصريح اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، من أن “رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي تنحى بتوصية من خامنئي وذلك للحفاظ على المصالح الشيعية” على حد قوله، عن مدى التزام الاخير بولاية الفقيه، وما قدمه من خدمات في توسيع النفوذ الإيراني في العراق. وفي ذات السياق، اكد المالكي في تأبين مقتل مؤسس سرايا “الخراساني”، الجنرال الإيراني حميد تقوي، بالقول “إن معركتنا واحدة وليست متفرقة ومحورها العراق وإيران وسوريا والبحرين ولبنان، لقد وحدونا وإن اختلفنا في بعض الأمور”.
وبخط متوازي فان المالكي في زيارته ابدى تعهدا في دعم الاستراتيجية الايرانية العليا لإيران، ومؤكدا على استمرار نهجه المناوئ لمملكة البحرين في تصديها للمؤامرة الإيرانية وأعمال الفتنة الطائفية، ملتزما بالتدخل الفج في الشؤون البحرينية من قبل مكونات “التحالف الوطني”، وتقديم العون والاسناد للمعارضة البحرينية، وتجنيد الفضائيات الطائفية العراقية لحملة إسناد متواصلة لدعم الشيعة هناك.
وليس بمقدور المالكي الا الظهور بالمظهر الطائفي، وهو القائل بانه شيعي قبل أن يكون عراقيا، وبالتالي فان عودته إلى سدة الحكم، تتطلب اسنادا إيرانيا يظهره بوصفه القائد السياسي “للحشد الشعبي”. ويبدو ان ثمة التباس مقصود تتبعه إيران حول قيادة هذه الميليشيات، لتغدو المسألة الأكثر اثارة للجدل، يراد منها توزيع الادوار بين قيادات سياسية وعسكرية تدين بالولاء لطهران، منها هادي العامري قائد “منظمة بدر”، وأبو مهدي المهندس، قائد كتائب “حزب الله” الذي تصنّفه الولايات المتحدة والكويت على لائحة الإرهاب، والذي اتّخذه المالكي مستشاراً له في ولايته الثانية، يتولّى الآن القيادة العسكرية لقوات الحشد. وقيس الخزعلي الامين العام لـميليشيات “عصائب اهل الحق” الذي تم تبنيه من قبل “فيلق القدس الايراني” وتلقى منه دعما ماديا ولوجستيا، وفالح الفياض مستشار الأمن القومي و”نائب رئيس” الحشد، المقرب من ابراهيم الجعفري.
استقراء هذه الزيارة لا يخرج عن اطار التنسيق وابداء الاستعداد لمزيد من التعاون، بين اذرع إيران وميليشياتها في المنطقة، في وقت يتعرض فيه حلفاء طهران لسلسلة من الخسائر في سوريا واليمن، ما يتطلب هجوما مضادا، إذ تتمحور المساومة الابتزازية الإيرانية بين وقف العرب دعمهم للانتفاضة السورية، مقابل وقف ايران ووكلائها دعم اعمال الشغب والغوغاء في البحرين، ومن المرجح ان تشهد الاخيرة تصعيدا على مستوى حركية المعارضة الشيعية، التي تلقى دعما عراقيا يشرف عليه المالكي ويساند فعالياته.
“المالكي لا يريد الرحيل”، وفقا لتعليق الإيراني الأصل محسن ميلاني، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية في واشنطن. وعلى الارجح فانه يريد استثمار امتثاله للرغبة الايرانية بالتنحي، حفاظا على كتلة شيعية موحدة في العراق، للعودة إلى كرسي رئاسة الوزراء، في ظل الفوضى والقلق الذي تشعر به إيران ازاء اوضاع حلفائها في سوريا واليمن، وتأكيده على ان وقته لم ينفد ففي جعبته المزيد.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
وحدة الدراسات العراقية