نحاول في كل مرة معاينة ورصد الموضوعة الثقافية في حِراك انتفاضة الشباب العراقية. وهو أمرٌ مهم في تقييم مثل هذا الفعل الوطني الذي حاولت السلطة بالوسائل كلها أن تشوهه لكنها لم تستطع حتى الآن. فالثقافة وعي مرحلة وإدراك حياة. وكثير من الشعوب على هذه الأرض استبقت عصرها بالوعي الجماعي واستدركت شؤونها بالثقافة العامة لذلك بُنيَت بناءً صحيحاً. ومع كل هذا الاندفاع إلى المستقبل ما تزال كثير من شعوب الأرض تمارس الثقافة الاجتماعية العامة على نطاق واسع وتتعلم من تقنيات وعلوم العصر المستحدثة، وتنظر إلى الحياة على أنها ليست سياسة فحسب وإنما بناء وإصلاح وتغيير وجمال مطلق.
ومَن يراقب حراك العراقيين المتمثل بشبابهم سيلتقط الكثير من الإشارات النوعية ببصمتها الثقافية التي ميّزتها عن كل حراك أو انتفاضة جماهيرية سابقة. ومع أن وسائل الإعلام العراقية الرسمية تقاطعت في متابعة هذا الحِراك خبراً وتحليلاً ومعطيات ناجزة ورسمت صورة مغايرة له بالاتهامات الجاهزة والمعروفة، غير أن الواقع كان أكثر إمضاءً على هذه الحركة الشبابية المطالبة بالتغيير السياسي. وكان الطرفان يراهنان على الوقت، وكان الوقت لصالح الانتفاضة حينما خلقت لها بنية ثقافية متمرسة ولم تجعل من ساحة التحرير مكاناً جامداً للاحتماء والمواجهة فحسب. بل شغلته بالسلاح الثقافي بطريقة بارعة وما تزال تجدد هذه الوصفة المباشرة على مدار الساعة واليوم. حتى باتت الوصفة الثقافية سمة شاخصة غذّاها مثقفون ومتعلمون وأكاديميون وناشطون.
وبالتالي يمكن أن نقول إن البصمة الثقافية التي خلت من التحزبات السياسية كانت الواجهة الرئيسية في متن الحراك، فالتعبئة الثقافية أتت ثمارها مبكرا من دون الحاجة إلى السلاح. وكان مثل هذا الإعلام قد فرض شروطه على الواقع الميداني لينتشر في عموم الساحات والمرافق وحاضنات الفعل الشعبي في العراق كله. بشعور واضح من أن السلاح الثقافي هو لبنة المستقبل لكل شعب ينادي بالحرية والتغيير.
ولو تطلعنا إلى واقع بداية الانتفاضة لوجدناها بدأت بالشعار الشهير “أريدْ وطنْ” باللهجة العامية وبالمغزى الاجتماعي النافذ الذي نبّه العراقيين إلى أن الوطن مسروق منذ ستة عشر عاماً. وأن المطالبة بإعادة الوطن إلى العراقيين له أكثر من دلالة سياسية ونفسية واجتماعية، وهو ما أثار حفيظة الجماهير التي وجدت بأنها قادرة على أن تبلور جوهر هذا الشعار ليقودها إلى المواجهة السلمية أمام سلطة متمترسة بالسلاح. فالمطالبة بالوطن من داخل الوطن إشهار ثقافي وسياسي ذكي حملته الأذرع والأكتاف إلى مسافات طويلة. وتزينت به الجدران والشوارع ليكون الشعار الجوهري لوطن ضائع أو مسروق أو منهوب من قبل ميليشيات السلطة وذيولها الصغيرة.
ومن ثم انتقل إلى مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً وأهمية في إيصال الصوت الوطني إلى العالم. وهذا ما تحقق سريعاً من دون الحاجة إلى محطات راديوية وفضائية، لوضع السلطة أمام حقيقة رهيبة بدأ المجتمع العراقي يدركها ويتبناها ويدافع عنها باستماتة حتى اليوم. في حين بقيت وسائل إعلام السلطة المحلية تشتغل على نمطية خبرية باهتة وكاذبة وتسويفية باعتبار أن الانتفاضة هي “إنتاج” خارجي ينفذه شباب الداخل العراقي. لكن الأيام والأسابيع كشفت أن الخارج بقي خارجاً سوى من تضامن اعتباري طبيعي؛ بينما زاد الشباب من جرعات الثقافة والإعلامية بطريقة متوازنة مع المطالب الوطنية المشروعة، حينما توسعت دائرة التحدي إلى الجسور المتوازية مع ساحة التحرير وأهمها سيد الجسور: جسر الجمهورية.
وبشكل متسارع ومع اشتداد الأزمة وسقوط ضحايا وجرحى كثيرين لعب التوثيق الفيديوي الإعلامي والثقافي دورا حاسما في فضح آليات السلطة الإجرامية والدموية عبر امتصاص الصدمات أولا ومن ثم نشرها في وسائل السوشيال ميديا؛ مع تكتم الآلة الإعلامية السلطوية عما يجري في ساحة التحرير وجسورها الثلاثة؛ حتى اتضح حجم الجريمة في بغداد والمحافظات الجنوبية الثائرة، عبر النشر الإلكتروني الذي قامت به جيوش إلكترونية واسعة النطاق وإدراجها في منظمات إنسانية تعنى بحقوق الإنسان والثورات السلمية، مما يعني تدويل الحراك بطابعه الإنساني، حتى انشغلت به الفضائيات العربية والعالمية كمصدر خبري مباشر من مصادر ساحة التحرير بحركيتها اليومية الدائبة، وبالتالي فإن كل النشرات الإخبارية اعتمدت على تصوير الهواة المتواجدين في ساحة العمليات بسبب غيابها عن الميدان. وهذا تجسيد أولي لفهم العصر الفيديوي المؤثر في ثقافة الإلكترونيات المتقدمة.
وعندما تمددت المساحة من ساحة التحرير حتى الجسور الثلاثة تمدد معها الهم الثقافي بزوايا متعددة ليس أقلها النشرات الجدارية اليومية والرسوم الكاريكاتيرية الفاضحة لأعوان السلطة الفاسدة والبوسترات الحيّة المواكبة للانتفاضة والمعارض التشكيلية والمتاحف الصغيرة والأغنيات الجديدة ذات الطابع الحماسي، حتى صدور الصحف اليومية التي أعلنت ولادة جيل جديد يمكنه من أن يقدم الفهم الثقافي لانتفاضته وحركته الشعبية. وهي صحف فاجأت الوسط الثقافي بتبنيها المشروع الثوري الثقافي، باعتبار أن الثقافة عامل رديف للثورة ومصنع قوتها وجدارها السميك الذي تتكئ عليه وتناور به وتمضي معه إلى المشوار الأخير. بإشارة واضحة وصريحة إلى أمية السلطة وميليشياتها التي تتقن ثقافة السلاح والقتل والجريمة المنظمة.
ساحة التحرير وجسورها المتوازية معها ليست ذات مساحة كبيرة. إنها بضع كيلومترات صغيرة. لكنها كشفت عن ثقافة جيل جديد يستطيع محاربة السلطة بالوعي المبكر ويدرك القيمة المعنوية للثقافة العامة، مع أن هذا الجيل محبط وأمامه طرق منحرفة كثيرة فرضها واقع الحال ؛ غير أنه اختار أعقد الطرق وأكثرها مضاءً وقوة لتفتيت قوة السلطة المسلحة وفضحها أمام العالَم، ليكون هو البديل العظيم عندما يقود الوعي الجديد إلى الحياة.
العرب