للقرار الأميركي بتصفية قائد قوات فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب قائد مليشيات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، أوفى رجال إيران في العراق، تداعياته الكثيرة على مسار المواجهة الأميركية الإيرانية، لكن نتائجه ستتشعب وتتفرع لتشمل دولا وأطرافا عديدة، طالما أن واشنطن اختارت العاصمة العراقية بغداد للقيام بهذا العمل والإعلان عن ساعة الصفر، وهي من المفترض أنها تعرف ما تفعله. ومن المفترض أيضا أن للرئيس الأميركي، ترامب، الذي أعطى أوامر التنفيذ حساباته السياسية والانتخابية والمالية، لكن فريق عمله وضع كل الاحتمالات والسيناريوهات، السلبية والإيجابية، أمام الطاولة، وناقشها مطوّلا بشأن مصالح أميركا ونفوذها وعلاقاتها بعد تنفيذ هذه العملية التي سيكون من الصعب توقع نتائجها واحتساب ارتداداتها.
يناقش الداخل التركي، منذ أيام، أسباب عملية تصفية سليماني وتداعياتها، والقرار الأنسب الواجب اتخاذه في أنقرة. وقد أعلنت طهران أنها قبلت التحدّي وقرّرت المواجهة، ليس انطلاقا من خطوة الدفاع عن النفس، بل الانتقام من السياسات الأميركية كلها، وتحميل واشنطن التكاليف الباهظة، مهما كان الثمن مكلفا عليها، فهل تقحم أنقرة نفسها في مشهدٍ حساس وخطير من هذا النوع. ويوجه الإعلام التركي في الداخل نصائح كثيرة إلى القيادات السياسية في السلطة، لتبقى بعيدةً عن هذا التوتر الأميركي الإيراني. هل ستسمح واشنطن وطهران لأنقرة باعتماد موقفٍ من هذا النوع؟ وهل بمقدور أنقرة أن تفعل ذلك في هذه المرحلة التي تداخلت فيها الملفات والحسابات والمصالح؟
تقول أنقرة إن الاتصالات التركية الإيرانية، في أعقاب الهجوم، تناولت مخاطر التصعيد في
“القناعة أن استهداف سليماني ليس عملية أمنية استخباراتية انتقامية بسيطة، بل تحرّك أميركي متعدد الأهداف”المنطقة، لكنها تقول أيضا إن “من الواضح أن العملية الأميركية ستفاقم انعدام الأمن وعدم الاستقرار في المنطقة”. هناك من يتساءل داخل تركيا وخارجها عما إذا كان الرئيس التركي، أردوغان، سيأخذ بنصيحة نظيره الإيراني، روحاني، الذي دعاه إلى زيارة طهران في أقرب وقت “إذا لم نتحد في مواجهة هذه الأفعال الأميركية، فسوف يضعنا هذا جميعاً أمام تهديد خطير”.
عند تحليل المسؤولين الأتراك أسباب تصفية سليماني ونتائجها ستكون هناك حتما محاولة الإجابة على تساؤل: هل قرّرت واشنطن ما فعلت بسبب الأضرار التي ألحقها بمصالحها ومصالح شركائها في المنطقة، أم أن الإدارة الأميركية قرّرت فعلا مراجعة سياستها الإيرانية بشكل جذري في المنطقة، وعلى أنقرة أن تحدد موقفها من جديد؟ لن تقف أنقرة إلى جانب واشنطن في أية محاولة أمنية عسكرية لاستهداف المصالح الإيرانية في المنطقة، خصوصا وسط هذه الأجواء، لأنها سبق أن اختبرت واشنطن أكثر من مرة في سورية والعراق، عندما انسحبت، وتركت الساحة مشرعة أمام إيران في البلدين. أنقرة غاضبة لأن ترامب الذي هاتف نظيره التركي قبل ساعاتٍ من العملية لم يعلمه بها، ولم يسأله رأيه حتى كشريك وحليف إقليمي، وهذا مؤشر آخر على حجم تراجع الثقة والتنسيق التركي الأميركي في الموضوع الإيراني. وتتزايد اللاثقة التركية الأميركية يوما بعد آخر، بسبب التباعد في ملفات ثنائية وإقليمية عديدة، فلماذا تعطي تركيا لأميركا ما تريده، وكيف ستتأكد أن هدف واشنطن ليس توريطها مع طهران مرة أخرى؟ بين ما تقوله أنقرة أيضا أن الانتخابات الإيرانية هي على الأبواب، وأن احتمالات صعود اليمين القومي والاصطفافات الدينية والمذهبية سيتزايد أكثر فأكثر على الساحتين، السياسية والحزبية، كارتدادات أولية لعملية تصفية سليماني. لم لا يكون هذا بين أهداف واشنطن الحقيقية للعب ورقة إيران ضد حلفائها وشركائها في المنطقة؟
تصف أميركا الحرس الثوري الإيراني مجموعة إرهابية. تصف أنقرة “وحدات الحماية” الكردية في سورية وقياداتها بأنها إرهابية. استهدفت واشنطن أحد أهم الرموز الأمنية في إيران. ما الذي ستقوله وتفعله واشنطن التي تقول إنها تحارب الإرهابيين، إذا ما قرّرت تركيا تقليدها من خلال تصفية قيادات محسوبة عليها ومرتبطة مباشرة بحزب العمال الكردستاني؟ تكاد الاتصالات المتلاحقة، بعد ساعات على عملية القتل، بين القيادات التركية والإيرانية، تقول إن أنقرة معنية، شئنا أم أبينا، بارتدادات ما جرى وسيجري، وأن الاغتيال رسالة أميركية إلى أنقرة بعدم الاقتراب أكثر من طهران، أو محاولة التفريط بعلاقاتها وتحالفاتها مع واشنطن، لكنه أيضا رسالة إيرانية لتركيا بضرورة حسم كثير من مواقفها، قبيل الانفجار الأمني والعسكري الواسع في مناطق نفوذ رمادية مع إيران.
القناعة الأولى في تركيا أن استهداف سليماني ليس عملية أمنية استخباراتية انتقامية بسيطة، بل تحرّك أميركي متعدد الأهداف والجوانب، غرضه خلط الأوراق الإقليمية ضد إيران وتضييق الخناق على سياساتها ومشاريعها في المنطقة. القناعة الثانية أن عملية خطيرة من هذا النوع تعكس حجم التخبط الأميركي في التعامل مع الملف الإيراني، وأن ما قامت به واشنطن لن يساهم في تقليل الأخطاء، وفتح الطريق أمام سياسة أميركية إقليمية جديدة تواجه النفوذ الإيراني، بقدر ما دخلت واشنطن في مغامرة مجهولة، لا تعرف حجم ارتداداتها ونتائجها السلبية عليها. وستحاول واشنطن، من خلال هذا العمل، تأجيج التوتر التركي الإيراني في ملفات سورية والعراق، والاحتكاكات المذهبية وخطط التمدد الإيراني في سورية والعراق. وهي تريد من أنقرة صرف النظر عن كل هذا الرهان على الدور الإيراني الإقليمي الذي تعارضه وترفضه عواصم عربية كثيرة وإسرائيل.
تعرف أميركا أن القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على إعطائها ما تريده في مواجهتها مع إيران هي
“تعرف أميركا أن القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على إعطائها ما تريده في مواجهتها مع إيران هي تركيا”تركيا. ولذلك ستعمل إما على كسبها حليفا وشريكا وتذكيرها أن سليماني هو المسؤول الأول والأخير عن تضرر كثير من مصالحها وخططها في سورية والعراق ولبنان، أو توريطها في نزاع مفتوح مع إيران، إذا ما فشلت في أخذ ما تريده من أنقرة. وتقول واشنطن، هذه المرّة، ومن خلال مغامرة خطيرة من هذا النوع، إنها لا تهتم بمن ينفذ الأوامر ضد مصالحها وسياساتها بعد الآن بل بمن يعطيها. والحوار التركي الأميركي حرج ودقيق وصعب إذا بعد الآن.
قد لا تعلن إيران الحرب على أميركا، لكنها ستحرّك أوراقها وأدواتها أينما كانوا لإقلاق وإخافة واشنطن وحلفائها في المنطقة، وهذا ما كشف النقاب عنه الداخل الإسرائيلي، وقيادات خليجيةٌ عديدة، بدأت تعد العدة لمعركة طويلة مع طهران. الواضح تماما كذلك أن الساحة العراقية ستتحول إلى بقعة مواجهات دموية أميركية إيرانية، ولكن الغامض هو احتمالات تفشّي عمليات الكر والفر وانتشارها في دول الجوار العراقي، وأن يكون لتركيا حصتها في هذا التوتر والتصعيد؟
تخلت أميركا، وكذا حلف الأطلسي، عن تركيا أكثر من مرة في الأعوام الأخيرة في أزمات وتوترات عديدة. لذلك سيكون القرار التركي صعبا ومنفتحا على أكثر من ملف إقليمي ساخن، لا يختلف كثيرا عن أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية التي أعطت تركيا الكثير، على الرغم من أنها لم تدخل الحرب. هل يتكرّر المشهد؟ الإجابة أن أنقرة تعرف تماما أن قاسم سليماني كان رجل إيران الأول في سورية والعراق ولبنان، إلى جانب احتمال أنه كان هو أيضا المسؤول المباشر عن خلايا ومجموعات التشييع والنفوذ الإيراني في المدن التركية. لكنها تعرف أيضا أن خياراتها وفرصها محدودة وضيقة أمام معادلة حساسة وخطيرة من هذا النوع، لا مجال فيها للوقوف على الحياد.
سمير صالحة
العربي الجديد