أفرج مجلس العموم البريطاني أخيرا عن صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ليس برغبة جميع أعضائه طبعا وإنما بإرادة الأكثرية البرلمانية لحزب المحافظين. مررت الصفقة بعد أن أسقط أنصار رئيس الوزراء بوريس جونسون كل المرفقات التي أرادت المعارضة إلحاقها في الاتفاق، من أجل تقييد مفاوضات لندن المقبلة مع بروكسل حول المرحلة الانتقالية والشكل النهائي للبريكست.
ما أن غادر الاتفاق قاعة مجلس العموم إلى اللوردات، حتى خرجت الحكومة بتحذير مبطن للغرفة العليا في البرلمان تطالبها فيه بالمصادقة على صفقة الخروج بسرعة، وإعادتها لتوصيلها إلى الملكة إليزابيث الثانية لختمها، وتحويلها إلى قانون يوضع حيز التنفيذ نهاية شهر يناير الجاري كما هو مقرر له. ومن هناك ستبدأ دون تأخير المرحلة الانتقالية التي تمتدّ على أحد عشر شهرا.
لن تعاني الحكومة كثيرا للحصول على موافقة اللوردات غير المنتخبين على اتفاق بريكست. صحيح أن معظمهم يؤيد البقاء، ولا يمتلك المحافظون في الغرفة العليا الأكثرية الكافية إذا ما تحالف حزبا العمال والليبراليين الديمقراطيين على الأقل. لكن خيار رفض الاتفاق ليس واردا، وكذلك خيار المماطلة من أجل تأخير موعد الخروج عن تاريخه المحدد في الحادي والثلاثين من الشهر الجاري.
اتفاق الخروج يخلو من كل النقاط التي أرادت المعارضة البريطانية تحديدها مسبقا لرسم الإطار العام لمفاوضات المرحلة الانتقالية بين لندن وبروكسل. من أبرز هذه النقاط كانت حقوق المواطنين المقيمين لدى كلّ من الطرفين، ومرجعيتهم القانونية والإجرائية في العمل والمال والتنقل والقضاء. ولكن حكومة المحافظين أبقت على كل شيء معلقا من أجل التفاوض عليه مع الاتحاد الأوروبي.
لا يريد بوريس جونسون أن يقدم شيئا مجانا لبروكسل. يريد مقابلا لكل شيء ويريد أن تبقى جميع خيوط المفاوضات بيده وبيد حكومته. هكذا يبقى الطرف الأقوى في المفاوضات، وهكذا يستطيع أن يمارس الخبث السياسي، إن جاز التعبير، في حواره مع الاتحاد الأوروبي. يمكن له أن يبتزهم ويساومهم ويغريهم ضمن الأطر القانونية طبعا، ولكن دون رقيب بريطاني يطالبه بتفسير كل خطوة.
رئيس الوزراء جعل محاكمته برلمانيا على ملف الخروج تنحصر في النتيجة إلى حدّ بعيد. فرقابة البرلمان على سير مفاوضات الحكومة مع الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الانتقالية هي في الحدود الدنيا. هذا يعني مسؤولية مضاعفة وليس فقط حرية في المفاوضات، لأن النتيجة السيئة والعلاقة المشوّهة مع الاتحاد الأوروبي يمكن أن تفتحا على جونسون أبواب جهنم لاحقا في الداخل البريطاني.
المرحلة الانتقالية قصيرة مقارنة بالعمل الذي يجب أن ينجز خلالها، وكلما اتسعت أجندة المفاوضات تقلّ فرص نجاح بريكست. هكذا تبدو المسألة ظاهريا، ولكن جونسون يراهن على تمرير الأوروبيين لبعض التفاصيل الصغيرة التي تهمه، مقابل العناوين الكبيرة التي تهمهم. فهم يريدون علاقة مستقرة مع المملكة المتحدة بذات القدر الذي يريده هو، وهذا هو عنوان المفاوضات الرئيسي.
يعرف الأوروبيون جيدا نقاط ضعف وقوة جونسون في المفاوضات المقبلة. وأبرز مواطن الضعف التي يحملها رئيس وزراء بريطانيا إلى بروكسل هو خشيته من علاقة منقوصة مع الضفة الأوروبية تساعد دعاة الانفصال في أقاليم المملكة المتحدة، وخاصة في اسكتلندا، على التعبئة خلف مشاريع الاستقلال عن لندن. فيصبح جونسون كما توقع أحد ما يوما، آخر رئيس حكومة للمملكة المتحدة.
بالنسبة لنقاط قوة جونسون، فربما يكون أبرزها سوق العمل البريطانية الجذابة للأوروبيين، وتلك الإمكانيات الأمنية والعسكرية الكبيرة للمملكة المتحدة، بالإضافة إلى علاقاتها الخارجية الجيدة مع دول وتكتلات عدة حول العالم. وفي هذا السياق لا شك أن إبرام بريطانيا لاتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة وأخرى مع كندا، ستقرب المسافة كثيرا بين لندن وبروكسل في المفاوضات.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين وصفت المشهد المنتظر حدوثه في الحادي والثلاثين من الشهر الجاري بقدر كبير من الواقعية. قالت أورسولا إن ذلك اليوم سيكون عاصفا في حزنه بالنسبة للبريطانيين والأوروبيين، ولكن عندما تشرق الشمس في اليوم التالي سيواصل الطرفان حياتهما كأفضل شركاء وأصدقاء. السبب كما تراه هي ويراه كثيرون، أن الروابط بين الطرفين غير قابلة للكسر.
لا ينطوي كلام أرسولا على أي مبالغة، فلا يمكن للأوروبيين والبريطانيين التخلي عن بعضهما. وإعادة صياغة العلاقة بينهما على أساس المزيد من الاستقلالية للطرفين لا يفسد للودّ قضية كما يقولون. المهمة صعبة برأي المسؤولة الأوروبية نظرا لضيق الوقت ليس أكثر. وبتعبير آخر، لا يوجد لدى أي دولة في الاتحاد الأوروبي تخوف من نجاح مفاوضات المرحلة الانتقالية مع المملكة المتحدة.
إن صدقت قراءة أرسولا، وكان في تمديد المرحلة الانتقالية مصلحة لبريطانيا تقيها شر الانقسام، لا أظن أن رئيس الوزراء سيمارس عنجهية جوفاء في رفضه. صحيح أن لندن تصر اليوم على عدم التمديد، ولكن ذلك ربما يستند على خطط واضحة في المفاوضات، أو ربما هي ورقة ضغط في التفاوض ليس إلا. هناك تجربة سابقة للبريطانيين مع جونسون في تراجعه عن رفض طلب تمديد موعد مغادرة الاتحاد الأوروبي من نهاية أكتوبر 2019 إلى نهاية يناير 2020. كان يقول حينها إنه يفضل الموت في خندق على فعل ذلك. لم يمت جونسون، وها هو اليوم رئيسا للحكومة البريطانية بأكثرية لم يعرفها حزب المحافظين منذ عقود.
العرب