السياسة الأمريكية والإيرانية إزاء العراق لعقد من الزمن سترسم معالم 2020

السياسة الأمريكية والإيرانية إزاء العراق لعقد من الزمن سترسم معالم 2020

قال رئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق هارولد ويلسون ذات مرة: “أسبوع یعد فترة طويلة في السياسة”. وبالنسبة للسياسة في العراق، إن أسبوعًا هو فترة طويلة جدًا بالفعل. وإذا ما أردنا الاستناد إلى الأسابيع القليلة الماضية، يجب أن نستعد للكثير من الأسابيع والأشهر المشحونة على نحو أكبر في الأشهر المقبلة. فمحركات الأزمة لا تزال قائمة وفاعلة وسط غياب شبه تام لأي مؤشرات على التهدئة.

وفي حين تُعتبر الأزمةالأخیرة بين إيران والولايات المتحدة في العراق من دون شك بمثابة تصعيد، إلا أنها ليست حادثة معزولة. فهي تمثل نقطة تحوّل في النزاع الشامل بين الدولتين وتعكس تطوّر الديناميات السياسية والأمنية في المنطقة. كما تشكّل تغيرًا ملحوظًا في التفكير السياسي في واشنطن وطهران وبغداد، وتبيّن في الوقت نفسه فشلًا جماعيًا على الصعيد السياساتي.

السياسات الأمريكية والإيرانية في العراق

منذ العام 2003، إدارة جورج بوش كانت الوحیدة التي انتهجت وطبقت سياسة واضحة متركّزة على العراق. وبعدما استثمرت تريليون دولار ومئات الأرواح من الأمريكيين لاحقًا، تخلّت إدارة أوباما عن هذه السياسات وسحبت القوات الأمريكية من العراق في 2011، لتتجاهل بعدا أمر العراق بالكامل. وحين عادت الولايات المتحدة إلى العراق في العام 2014، استند وجودها على سياسة ركّزت إلى حدّ كبير على محاربة تنظيم “داعش” وليس على العراق نفسه. في الموازاة، تطوّرت سياسة الولايات المتحدة إزاء أیران بالفعل؛ أبرمت إدارة أوباما اتفاقًا نوويًا تاريخيًا مع إيران (وهو ما يُعرف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”) حظي بكامل دعم وموافقة قوى عالمية رئيسية أخرى. واستند القوی على أمل أن تغيّر إيران، بحسن نية، سلوكها أيضًا. إلا أن هذا الأمر لم يحصل بالطبع.

وفي ظل إدارة جديدة بقيادة ترامب، واصلت الولايات المتحدة تطبيق السياسات المرتكزة على محاربة “داعش” والتي وضعتها الإدارة السابقة إلى حين وصلت إلى نهاية يمكن القول عنها نهاية طبيعية. من جهة أخرى، كانت سياسة الإدارة الأمريكية إزاء العراق، حين اصبحت قائمة، سياسة متركزة بشكل شبه كامل على إيران. وبالتزامن، انسحب الرئيس ترامب من “خطة العمل الشاملة المشتركة” وحضّ على إجراء مفاوضات جديدة مع إيران ترمي إلى إثباط طموحات إيران النووية بشكل دائم وتغيير سلوكها التوسعي في الشرق الأوسط وفتح أبوابها أمام الشركات الأمريكية. وقد أثبتت إدارة ترامب على نحو متزايد استعدادها لاستعمال الجيش الأمريكي والقدرة المالية للقوى العالمية من أجل جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات وتعزيز موقفها التفاوضي. غير أن سياسة الولايات المتحدة داخل العراق فشلت، خارج إطار أهدافها الإقليمية الأكبر، في شقّ مسار خاص بها.

في المقابل، انتهجت إيران سياسة واضحة إزاء العراق طوال الفترة التي شهدت فيها السياسة الأمريكية تقلبات. فالجمهورية الإسلامية تعرف تمامًا ما الذي تريده في العراق وقد نجحت في الحصول على مبتغاها. ويُعزى هذا الوضوح جزئيًا إلى الحاجة؛ فالقادة الإيرانيون يعتبرون العراق مهمًا جدًا لأمنهم القومي وبقاء نظامهم، حيث يتعاملون مع العلاقات الثنائية كما لو أن العراق امتداد وثيق وطبیعي لبلدهم. كما تميل إيران إلى الاستفادة من الموارد البشرية والاقتصادية للعراق خلال مسعاها لتحقيق أهدافها المحلية.

وكان هذا السلوك المستهدف إلى جانب غياب أي توجيه أمريكي في العراق قد سمح لإيران بالمضي قدمًا في مسارها من دون انقطاع خلال العقد الفائت. فقد استفادت إيران من كل أزمة في العراق، انطلاقًا من الحرب ضد “داعش” وصولًا إلى استفتاء إقليم كردستان العراق للحصول على الاستقلال، من أجل تسريع وتيرة هذا التقدّم. وقد أدّت القرارات التي اتخذها الطرفان إلى هذه اللحظة الحالية، حيث تُظهر إيران ثقة كبيرة بشأن موقفها التفاوضي القوي في ما يتعلق سواء بالمفاوضات أو الحروب المستقبلية. وإذا ما نجحت جهودها الحالية الرامية إلى ضمان الخروج الأمريكي من العراق، ستشعر إيران بمزيد من الثقة والأمان حتى.

القوة الناعمة في سياسة العراق

منذ تغيير النظام في العراق عام 2003، طوّرت إيران علاقات سياسية وأمنية واقتصادية أكثر فعالية في العراق مما فعلت الولايات المتحدة. فقد لجأ الإيرانيون إلى حلفائهم في القطاعين السياسي والأمني في العراق (بما في ذلك الذين يتصرفون كوكلاء مباشرين) من أجل تطبيق سياساتهم في العراق ليس فقط بهدف السيطرة على عملية صنع القرار (وهو ما فعلوه) بل أيضًا لتقليص النفوذ الأمريكي في العراق والتخلص منه تمامًا في نهاية المطاف.

ولهذه الغاية، أقامت إيران علاقات شخصية وثنائية ممتازة مع معظم الجهات الفاعلة السياسية والأمنية في العراق، مشجعةً في الوقت نفسه الانقسامات الداخلية في السياسة العراقية. ولتحقيق هذا الهدف، لا تتعامل إيران رسميًا مع مؤسسات الدولة أو المنظمات السياسية في العراق، بل تقوم الاستراتيجية الإيرانية بدلًا من ذلك على تقسيم المنظمات على مكوناتها الفردية وتُتعامل مع رؤساءها علی أنفراد وبشكل مستقل. وقد أبدع الجنرال سليماني في هذا النهج، ما ساعد على المساهمة في عدم الاستقرار في العراق واعتماد السياسيين فيه على التوجيهات الإيرانية.

في المقابل، لم ينطوِ النهج الأمريكي على أي من هذه التكتيكات. ولذلك، وإذا ما أضفنا غياب سياسة توجيهية واضحة في العراق، تكون الولايات المتحدة قد خسرت الكثير من نفوذها في العراق مع مرور الوقت. وفي الوقت الذي كان فيه الهجوم على سليماني حازمًا، اضمحل نفوذ الولايات المتحدة داخل العراق حاليًا، وهو نفوذ يتراجع عمومًا بسبب التهديدات العسكرية أو المالية.

وعليه، فقد سمحت السياسة الإيرانية الواضحة وضوح الشمس في العراق ترافقها سياسة أمريكية ضبابية للإيرانيين وحلفائهم بجرّ الولايات المتحدة إلى هذه السلسلة من الأفعال الانتقامية التي بلغت ذروتها خلال أزمة الأسبوع الفائت. وفي حين لم يكن مقتل سليماني متوقعًا ربما، رأت إيران على الأرجح أن هجومًا مباشرًا من الولايات المتحدة يصبّ في مصلحتها – فالتحشید ضدّ العدو أبعد الأنظار من الاحتجاجات المناهضة لإيران التي سادت شوارع العراق ولبنان خلال الأشهر القليلة الماضية. ويُعتبر شنّ هجوم ضدّ إيران فرصة لتوحيد الصفوف وتشتيت انتباه المعارضة الداخلية وحشد دعم مختلف حلفاء إيران في أرجاء الشرق الأوسط.

غير أن إيران أساءت التقدير في هذا المجال أيضًا. فخلال الحض على ردّ، دفعت إيران في الوقت نفسه باتجاه تغيير كبير في التفكير السياسي لكل من إدارة ترامب وكامل المؤسسة الأمريكية، بما في ذلك الدبلوماسيون الأمريكيون في العراق. وفي حين أن سلسلة الأحداث التي أدّت إلى الضربة بذاتها ليست واضحة، يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت الآن أكثر حزما ووثوقا وإستعدادا للقتال. وقد أظهرت الأسابيع القليلة الماضية أن الإدارة الحالية أصبحت أقلّ تساهلًا بكثير إزاء السلوك الإيراني المستمر في العراق وأكثر استعدادًا لاتخاذ خطوات عسكرية دفاعية وهجومية ضد طهران أو وكلائها.

سيناريوهات للعام 2020

خلال الأسبوع الماضي، اختبرت كل من إيران والولايات المتحدة مذاق الحرب الشاملة. وقد خرجت إيران بخسارة شبە مؤكدة منها: فقدت جنرالًا يكاد يكون غیر قابل للتعوی (قاسم سليماني) ونظيره العراقي (أبو مهدي المهندس) وكذلك فقدت السيطرة على صواريخها المضادة للطائرات وفقدت الوحدة العاطفية التي كانت تأمل في تحقيقها بهذا الهجوم. ومن المرجح أن تكون الديناميكية الجديدة قد غيّرت حسابات القادة الإيرانيين وجعلتهم يفكرون بنقاط ضعفهم.

نظرًا إلى التصعيد الحالي، من المرجح أن يكون العام 2020 عامًا حاسمًا لمصالح لكل من الولايات المتحدة وإيران في العراق وكذلك مواقف البلدين تجاه بعضهما البعض. ويتمثل السيناريو الأكثر ترجيحًا في الحفاظ على “الوضع الراهن”، أي لا سلام ولكن لا حرب بعد؛ لا تصعيد ولا تخفيف من حدة التصعيد. غير أن الوضع الراهن يشبه بشكل متزايد حرب استنزاف خطرة. فالولايات المتحدة لا تظهر اهتمامًا كبيرًا في التخفيف من وطأة سياسة الضغط الأقصى التي تنتهجها، مع إبقائها جنودها في حالة تأهب. علاوةً على ذلك، تشير الاحتجاجات المستمرة داخل إيران – وهي نتيجة غير مباشرة للتصعيد – إلى أن الوضع الراهن غير مستدام على نحو متزايد بالنسبة لإيران. كما أن دورة التصعيد الحالية قد تجاوزت حدود التعاطف الدولي المتبقي الذي كانت إيران لا تزال تحظى به.

وفي 2020، ستواصل إيران مساعيها الرامية إلى إخراج الجيوش الأمريكية، حيث ستمارس ضغوطًا سياسية متنامية إما من خلال الحكومة والبرلمان في العراق أو استفزازات عسكرية محدودة عبر وكلائها. قد تنجح في مسعاها هذا وتتسبب بردّ من الولايات المتحدة، سواء على شكل تغريدة من الرئيس ترامب الذي يمكنه بسهولة الإعلان عن قرار بمغادرة العراق – وهو قرار يرتّب تداعيات خطيرة على العراق، ربما تشمل تحوّله إلى دولة فاشلة – أو مزيد من التصعيد من المرجح أن ينتهي قبل بلوغ حالة حرب شاملة.

وإذا لم تعتبر إيران الوضع الراهن مستدامًا، يرى الكثيرون أنها قد تنتهج استراتيجية تصعيد جديدة نابعة عن يأسها، حيث ستسعى إلى شنّ حرب كوسيلة لضمان صمود النظام في نهاية المطاف. لكن صحيح أن اغتيال قاسم سليماني يقدّم زخمًا كبيرًا وفرصة لتصعيد أزمة الأسبوع الفائت وتحويلها إلى حرب، إلا أنه لم يدفع بإيران إلى سلوك هذا المسار. وفي حين أن السبب المنطقي خلف ذلك القرار لا يزال مجرد تكهنات، تشير عدة عوامل – قصيرة الأمد وتاريخية على السواء – إلى أنه من المستبعد أن تسلك إيران مسارًا مماثلًا.

وقد أثبت القادة الإيرانيون تاريخيًا أنهم أذكياء وبرغماتيون إلى حدّ كبير. فإيران لم تدخل قط في مواجهة مباشرة مع أي قوة عالمية أو إقليمية نافذة، بل فضّلت استخدام وسائل أكثر أمانًا وفعالية تقوم على إخلال التوازن من خلال شنّ حروب بالوكالة خارج أراضيها. وفي حين ورّطت الجمهورية الإسلامية تركيا في نزاع دموي في سوريا، فآخر مرة واجهت فيها إسطنبول – رغم العداوة القديمة بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية – كانت قبل أكثر من 500 عام. وعلى نحو مماثل، عوضًا عن توريط الولايات المتحدة في حرب وجودية شاملة مباشرة، سعت إيران إلى حصر الصراع في العراق.

علاوةً على ذلك، تُعتبر الأشهر القليلة المقبلة خطيرة على نحو خاص بالنسبة لإيران، ما يردعها عن القيام بأي فعل كبير مزعزع للاستقرار. فمن المرجح أن تنشغل طهران في المستقبل القريب بالانتخابات البرلمانیة في شباط/فبراير وردّ الفعل الساخط بعدما أسقطت إيران طائرة أوكرانية. وفي المقابل، ستكون الفترة الممتدة بين أواخر الصيف وأوائل الخريف مثالية للتحرك – حيث سيكون موقف ترامب أضعف في ظل الانتخابات التي ستجري في الولايات المتحدة. ومن جهتها، إن الفترة الأفضل بالنسبة للولايات المتحدة تمتد بين الحاضر ونهاية آذار/مارس على أبعد تقدير، أي قبل الانطلاق الفعلي للحملة الرئاسية الأمريكية.

وبالفعل، قد يؤدي الموسم الانتخابي في البلدين إلى هدوء وترقّب في الجانب الإيراني على أمل انتهاج سياسة أمريكية مختلفة تمامًا إزاء إيران. وقد يأمل الإيرانيون انتخاب رئيس من الديمقراطيين يبني على “خطة العمل الشاملة المشتركة” السابقة مع إجراء بعض المفاوضات التكميلية المتعددة الأطراف بشأن نظام أمني جديد في الشرق الأوسط. ويفترض الإيرانيون حاليًا أن ولاية ثانية لترامب قد تكون أكثر تهورًا، بما أنه لن يخسر الكثير في ظل انعدام فرص إعادة انتخابه مرة أخرى. مع ذلك، فمن الممكن أن يعتمد ترامب في ولایتە الثانیة آفاقًا مختلفة ويقدّم فرصة جديدة للتوصّل إلى اتفاق جديد يرضي الطرفين بعد الانتخابات. ففي النهاية، يدرك ترامب بداخله – الذي لطالما كان رجل أعمال – أن الحروب هي سلاح ذو حدين. لكن نظرًا إلى الضغوط التي يرزح الطرفان تحت وطأتها، من المستبعد أن يتبلور سيناريو مماثل من دون أن تعترضه ضغوط من الشعب.

إنه لأمر مؤسف، بما أن حوارًا حقيقيًا متعدد الأطراف هو السيناريو المثالي والأكثر استحسانًا من المجتمع الدولي للعام 2020، لكن في إطار انعدام الثقة المتبادل، من المستبعد أن تؤدي الانتخابات المرتقبة التي ستجري في البلدين إلى توفير البيئة الصحيحة لهكذا الحوار. وحتى الآن، لم يبدِ المجتمع الدولي، ولاسيما الدول الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي” وقوى عالمية أخرى، استعدادًا للتدخل بشكل كبير.

ومع ذلك، ففي 14 كانون الثاني/ يناير، أعربت القوى الثلاث الكبرى في أوروبا (المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا) عن قلقها إزاء فشل إيران في الوفاء بالتزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة وأطلقت آلية لتسوية المنازعات (مضمنة في الاتفاق). وقد يؤدى ذلك الى تعقيد تلك القضايا أكثر فأكثر ويؤدى الى استمرار التوتر المتزايد. ومن ثم يجب أن ننتظر الأسابيع القليلة المقبلة حتى نكتشف ما قد يوفر صورة أوضح عن اتجاه تلك التوترات.

دلاور علاء الدين

معهد واشنطن