خلال مؤتمر صحفي عُقد بعد اغتيال قاسم سليماني، أعاد الرئيس ترامب التأكيد على سياسة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها إدارته ضدّ إيران وطلب مجدداً من الدول الأوروبية الانسحاب من الاتفاق النووي. وفي غضون ذلك، أعلنت طهران عمّا أسمته بـ “الخطوة العلاجية الخامسة والنهائية” بعيداً عن التزاماتها بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». ورداً على ذلك، صرّح وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا في 14 كانون الثاني/ يناير أنهم سيطلقون آلية تسوية النزاعات التي تنص عليها الخطة.
غير أنه في الوقت نفسه، أوضحت هذه الدول الأوروبية الثلاث أنها لن تنضمّ إلى حملة الضغط الأقصى التي تشنها إدارة ترامب [على إيران]، والتي ازدادت حدتها بشكل مطرد منذ انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» وإعادة فرض عقوبات أمريكية أحادية الجانب في عام 2018. وخلافاً لادعاءات الولايات المتحدة، لن يتسبّب القرار الأوروبي فوراً “بردّ مفاجئ” يتمثل بفرض الأمم المتحدة المزيد من العقوبات على طهران (على الرغم من أن هذا السيناريو يمكن أن يتكشف لاحقاً إذا فشلت خطة الدول الأوروبية الثلاث وتتم إحالة الانتهاكات الإيرانية إلى مجلس الأمن الدولي). وبدلاً من ذلك، تحافظ أوروبا على موقفها الوسطي بين واشنطن وطهران بغية إبقاء احتمال إجراء مفاوضات جديدة بشأن البرنامج النووي وقضايا إقليمية أخرى قائماً.
المسيرة الطويلة لآلية تسوية النزاعات
سعت الدول الأوروبية الثلاث إلى إبقاء على خيار آلية تسوية النزاعات كملاذ أخير منذ أيار/ مايو 2019 عندما بدأت إيران بالتخلي عن بعض التزاماتها ضمن «خطة العمل الشاملة المشتركة» كل ثلاثة أشهر. وقررت طهران اعتماد هذه الاستراتيجية بسبب الضغوط المتنامية التي مارستها إدارة ترامب – ففي ذلك الشهر نفسه، تراجعت الولايات المتحدة عن تنازل سُمح بموجبه للإيرانيين ببيع اليورانيوم المخصب، فأرغمتهم بذلك إما على وقف عملية التخصيب بالكامل أو تجاوز القيود المحددة ضمن الخطة. واختار الإيرانيون الاحتمال الأخير، فاتخذوا “خطوات إصلاحية” أخرى منذ ذلك الحين: تخطي حدود المخزون المسموح به للمياه الثقيلة؛ وتخصيب اليورانيوم بنسب أعلى؛ وتجاهل القيود المفروضة على البحث والتطوير الخاصة بأجهزة الطرد المركزي؛ واستئناف التخصيب في منشأة “فوردو” المحصنة للغاية؛ وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة، بما في ذلك النماذج المتطورة.
وتشير الخطوة الأخيرة التي أُعلن عنها في الخامس من كانون الثاني/ يناير إلى أن إيران لن تلتزم بعد الآن بأي قيود فنية على أجهزة الطرد المركزي. وسيسمح لها ذلك بزيادة كمية اليورانيوم المخصب التي تنتجها شهرياً، الأمر الذي من شأنه أن يقلّص بدرجة كبيرة المدة الزمنية التي تلزمها “لتجاوز” العتبة النووية وتصنيع مواد صالحة للاستخدام في الأسلحة النووية إذا اختارت هذا المسار. وبالفعل، في 16 كانون الثاني/ يناير، أعلن الرئيس حسن روحاني أن كمية اليورانيوم المخصب التي تنتجها بلاده اليوم تفوق تلك المسجلة قبل «خطة العمل الشاملة المشتركة» – وهو تصريح مقلق نظراً إلى الفترة الزمنية القصيرة المقدرة التي كانت تحتاج إليها إيران لتجاوز العتبة النووية في 2015. وسيسلّط تقرير “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” المقبل الذي من المقرر صدوره في مطلع شباط/ فبراير الضوء بدقة على القدر الذي تزيد فيه إيران من قدراتها الفنية.
ولحسن الحظ، لم تستخدم طهران الحافظة النووية لمعاقبة الولايات المتحدة على اغتيال سليماني. وبالرغم من اغتياله قبل يومين فقط من الإعلان المتعلق بأجهزة الطرد المركزي في الخامس من كانون الثاني/ يناير، كانت هذه “الخطوة الإصلاحية الخامسة” متوقعة قبل ذلك بكثير. ويُعزى التزام طهران النسبي على الأرجح إلى رغبتها في البقاء ضمن إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة» نظراً إلى الفوائد المهمة التي تعود عليها من جراء هذا الاتفاق – ولا سيما، تجنب إعادة فرض بعض العقوبات من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وعلى المدى الطويل، قد ينتظر الإيرانيون إلى حين انتهاء ولاية ترامب، ربما على أمل أن يخلفه رئيس جديد في العام المقبل ويعيد الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي. وفي غضون ذلك، بإمكانهم استئناف بيع الأسلحة في تشرين الأول/ أكتوبر القادم عندما تنقضي مدة القيود المختلفة التي فرضتها الأمم المتحدة على هذا النشاط.
إطلاق آلية تسوية النزاعات يمثل خطراً ضرورياً
خلال الأشهر القليلة الماضية، طلبت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً من الزعماء الأوروبيين الإقرار بعدم امتثال طهران لأحكام «خطة العمل الشاملة المشتركة» من خلال فرض آلية تسوية النزاعات، إلا أنهم أحجموا عن ذلك حتى الآن. فبنظرهم، إن هذه الخطة هي إطار العمل القابل للتطبيق الوحيد القادر على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، لذا منحوا طهران فرصاً متعددة للتقيّد الكامل بالخطة. كذلك، لا يخلو اعتماد آلية تسوية النزاعات من المخاطر بما أن الفشل على هذا الصعيد قد يؤدي إلى انهيار «خطة العمل الشاملة المشتركة» برمتها، ويتسبّب بموجة تصعيد جديدة في المنطقة ويقلّص احتمال إجراء أي محادثات مستقبلية مع الولايات المتحدة. غير أن المسؤولين الأوروبيين يعتقدون على ما يبدو أن اتخاذ هذه الخطوة ضروري الآن لأن الضغوط الأمريكية والإيرانية المتنافسة عرّضت الاتفاق النووي للخطر أساساً. كما أن آلية تسوية النزاعات هي الخيار الأفضل للحفاظ على مصداقية الدول الأوروبية الثلاث وتجنب المزيد من التصعيد العسكري.
ووفقاً لذلك، وبعد إعلان إيران المتعلق بأجهزة الطرد المركزي في الخامس من كانون الثاني/ يناير، أعادت الدول الأوروبية الثلاث التأكيد على التزامها بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» وكررت هدفها المتمثل بمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية وألقت باللوم على طهران على تسببها باضطرابات في المنطقة. وبعد ذلك، أطلقت آلية تسوية النزاعات، وهي عملية مرنة تسمح لأي طرف ضمن «خطة العمل الشاملة المشتركة» بإحالة المسائل إلى “اللجنة المشتركة” للتوصل إلى حل إذا اعتُقد أن طرفاً آخر لا يفي بالتزاماته. والآن، أمام جميع الأطراف – بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وإيران وروسيا والاتحاد الأوروبي – في الخطة ما يقرب من شهر لاتخاذ قرار بشأن كيفية التعامل مع انتهاكات طهران (أو لفترة أطول إذا وافقوا على تمديدها).
وهذه فرصة يتعين على إيران والولايات المتحدة اغتنامها إذا أرادتا تجنب أي تصعيد إضافي. ويأمل القادة الأوروبيون أن تؤدي رغبة طهران في البقاء ضمن «خطة العمل الشاملة المشتركة» إلى إرغامها على تقديم تنازلات خلال عملية تطبيق آلية تسوية النزاعات. ومن شأن ذلك أن يرسي أساساً لإجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن، تقوم في المقام الأول على إنقاذ إطار عمل الخطة، لتتوسع وتشمل قضايا أخرى في ما بعد. لكن هذه المقاربة لن تنجح إلا إذا قدّمت إدارة ترامب خيارات واقعية يمكن لأوروبا عرضها كأسس لإعادة الجميع إلى طاولة المفاوضات.
استئناف المحادثات: لماذا وكيف؟
تتفق الولايات المتحدة وأوروبا على أن أنشطة إيران في العراق وسوريا واليمن تشكل تهديداً للأمن الإقليمي ولا بدّ من مناقشتها، تماماً كبرنامجها للصواريخ الباليستية. وقد اتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من جهته عدداً من الخطوات لاستئناف المحادثات استناداً إلى هذه المصالح المشتركة، حتى أنه أقنع ترامب وروحاني بالموافقة على خطة من أربع نقاط في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي. غير أن سلسلة من الحوادث التصعيدية، بما فيها أعمال شغب نفذتها الميليشيات ضد السفارة الأمريكية في العراق، ومقتل سليماني، والهجوم الصاروخي الانتقامي الإيراني، جعلت من الصعب تحويل هذه الخطوات إلى مفاوضات.
فضلاً عن ذلك، دفع اندلاع احتجاجات جديدة في إيران بالبعض إلى اعتبار أن الوقت لم يحن الآن لمواصلة المحادثات مع الحكومة. غير أن هذا الادعاء قصير النظر – بما أنه يمكن بسهولة دعم تطلعات المتظاهرين مع الاستعداد في الوقت نفسه لمفاوضات جادة. فالبحث عن سبل دبلوماسية لا يتناقض والتعبير عن التضامن مع مطالب الشعب الداعية إلى الشفافية والديمقراطية والحوكمة الأفضل؛ وفي الواقع، من شأن المفاوضات أن تبعث برسالة إلى الإيرانيين مفادها أن حكومتهم لديها خيارات أخرى غير التصعيد العسكري.
لقد أشار الرئيس ترامب مراراً وتكراراً إلى أنه يؤيد عقد اتفاق مع إيران وأن الدول الأوروبية الثلاث تعوّل عليه للتصرف وفقاً لذلك. والآن بعد تفعيل آلية تسوية النزاعات، على واشنطن الاستفادة من الضغوط الناتجة على إيران لتقديم اقتراحات إضافية وفتح مجال أمام مفاوضات تتخطى الملف النووي. ولطالما اعتبرت أوروبا الاتفاق النووي بمثابة الركيزة الأولى الأساسية لإبرام اتفاق شامل مع إيران، كما أن آلية تسوية النزاعات هي فرصة للولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق شامل مع طهران عوضاً عن نسف الاتفاق النووي. على سبيل المثال، إذا قدمت إدارة ترامب تنازلات جديدة محدودة تتعلق بالعقوبات خلال تطبيق آلية تسوية النزاعات، فلن يساعد ذلك المسؤولين الأوروبيين على إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات فحسب، بل سيبعث برسالة مفادها أن الهدف من حملة الضغط الأقصى هو إجراء مفاوضات جديدة وليس تغيير النظام – وهذا عنصر أساسي لبناء الثقة قبل البدء بالمفاوضات.
ويعتبر البعض قرار تطبيق آلية تسوية النزاعات كمثال على تنازل أوروبا إما لواشنطن أو لطهران. غير أنه من حيث تصرفاتها على مدار العامين الماضيين، بقيت أوروبا موحدة وثابتة إلى حدّ ما في التوسط بين الطرفين، لذا حان الآن دور الحكومتين الأمريكية والإيرانية لملاقاة الدول الأوروبية الثلاث في منتصف الطريق. لكنهما رفضتا للأسف خيار أوروبا حتى الآن، ودعت إدارة ترامب أوروبا إلى إعادة فرض عقوبات بدلاً من تطبيق آلية تسوية النزاعات، في حين تهدّد حكومة روحاني الجنود الأوروبيين في الخارج.
هذا ولطالما حذرت الدول الأوروبية من أن انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» سيقوّض جهود مكافحة انتشار الأسلحة النووية وسيقوي «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني ويزيد من حدة الاضطرابات في المنطقة. وترى هذه الدول أن توقعاتها قد أصبحت حقيقية، لذا فقد حان الوقت الآن لأخذ المفاوضات على محمل الجدّ ووقف لعبة فرض التدابير المضادة الخارجة عن السيطرة. ورغم أن آلية تسوية النزاعات ليست حلاً سحرياً، إلا أنه يتعيّن على إيران وإدارة ترامب أن تدركا أن هناك القليل من الخيارات الجيدة المتبقية للوصول إلى حل تفاوضي.
معهد واشنطن