شهد الأسبوعان الأخيران من شهر يناير أحداثا هامة في مسار العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، وتأثيراتها على المنطقة. بدا البلدان، ومعهما المنطقة، على حافة حرب بعدما أسفرت غارة بطائرة أميركية مسيّرة عن مقتل الجنرال النافذ في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في الثالث من يناير. وبعد خمسة أيام من تلك العملية، ردّت إيران بإطلاق صواريخ على قاعدتين يتمركز فيهما جنود أميركيون في العراق. وبعد ساعات، أسقط الجيش الإيراني، الذي كان في حالة تأهّب خشية الردّ الأميركي طائرة ركاب أوكرانية، ما أسفر عن مقتل 176 شخصا هم جميع من كانوا على متنها.
تستمد هذه الأحداث أهميتها أولا من قوة الضربة التي وجهتها واشنطن إلى طهران باستهداف سليماني. كما تستمد هذه الأحداث خصوصيتها من السياق العام الذي جاءت فيه، سواء من حيث الوضع الداخلي الإيراني المحتقن عشية الانتخابات التشريعية، أو من حيث التوجه الأميركي الذي تضبطه بوصلة الانتخابات الرئاسية، وتطلع دونالد ترامب لولاية ثانية.
توقع المتابعون اشتعال حرب بين الطرفين، لكن ردّات الفعل وتصريحات الطرفين، كما مواقف الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، تؤكد أن الأزمة مع إيران لم تصل بعد لآخر أشواطها، وسيبقى أثرها في حالة سيولة مفتوحة على كل الاحتمالات.
رقصة التانغو مستمرة
أزمات إيران المتراكمة
◄ العقوبات الأميركية: يتوقّع معهد التمويل الدولي أن ينكمش الاقتصاد الإيراني خلال هذه السنة المالية بنسبة تتجاوز 7 بالمئة نتيجة لانخفاض صادرات النفط الخام بسبب العقوبات. ويرجّح التقرير انخفاض احتياطي البلاد من النقد الأجنبي إلى 73 مليار دولار بحلول شهر مارس، لتفقد البلاد بذلك قرابة 40 مليار دولار خلال سنتين. وقال الباحث روبرت موجيلنيكي “إذا بقي الرئيس ترامب في منصبه حتى 2024، ستصبح آفاق التوصل إلى اتفاق دائم بين الولايات المتحدة وإيران بعيدة. ولذلك، يفوق عدد المخاطر التي تواجه الاقتصاد الإيراني عدد الفرص”.
◄ احتجاجات الشوارع: مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، شهدت إيران موجات متتالية من الاحتجاجات المتقطعة بلا قيادة. وعادة ما تثار هذه الاحتجاجات بسبب المظالم الاقتصادية، ولكنها لم تشهد من قبل دعوات للإطاحة بالنظام.
◄ الاتفاق النووي: أعلنت بريطانيا وفرنسا وألمانيا تدشين آلية فض النزاعات المنصوص عليها ضمن الاتفاق النووي المبرم مع إيران بسبب عدم التزامها ببنود الاتفاق، وذلك في محاولة لإجبارها على الامتثال. وتؤكد هذه الدول التزامها بإنقاذ الاتفاقية. ومن جهته، دعا الرئيس الأميركي الأوروبيين إلى الانسحاب من الاتفاق وتعزيز حضورهم في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن يؤدي تفعيل آلية فض النزاعات إلى فرض عقوبات دولية جديدة، مما سيزيد من مشاكل إيران التي تعاني من آثار الضغوط المسلطة عليها بالفعل.
حسابات المكسب والخسارة للطرفين تدفع في اتجاه استمرار الوضع في منزلة بين المنزلتين: لا حرب ولا تفاوض. لكن وقوع مناوشات واحتكاكات عسكرية أمر وارد لا محالة. كما يبقى السقف مرتفعا بالنسبة لتوقع ردود أفعال غير محسوبة من إيران عبر الميليشيات والجماعات المسلحة المقربة منها في العراق وفي الشرق الأوسط عموما.
سياسة عضّ الإصبع التي يمارسها الطرفان حاليا، لا تترك بديلا آخر أمام نهاية قد تنتهي برضوخ أحد الأطراف أو أن تنتهي فصولها الدرامية بفوضى غير محسوبة تؤدي إلى إحداث الضرر بالمنطقة كلها. أول الردود الإيرانية كان قرار ضخ مئتي مليون يورو زيادة على ميزانية فيلق القدس من الصندوق الوطني للتنمية.
لكن، هذه الخطوة لم تأت وفق ما تشتهيه سفن النظام الإيراني الذي وجد نفسه محل مساءلة وغضب من الشعب الغاضب من تجويع النظام له لتمويل الميليشيات في الخارج. وازداد الوضع تعقيدا بالنسبة للمرشد الأعلى وتابعيه، على خلفية حادثة الطائرة الأوكرانية التي نسفت الوحدة الوطنية التي أراد المسؤولون الإيرانيون بثّها إثر مقتل سليماني.
اعتقد النظام في إيران أن حيلة التعتيم القديمة ستنطلي على الشعب في الداخل. لذلك حاول الجنرال في الحرس الثوري أمير علي حاجي زاده الدفاع عن قرار النظام بإخفاء حقيقة إسقاط الطائرة لمدة ثلاثة أيام.
لكن، انكشف الأمر في الأخير، واضطرت طهران إلى الاعتراف بأن صاروخا أطلقه الحرس الثوري أخطأ هدفه وأصاب الطائرة بالقرب من مطار طهران الدولي، ممّا أسفر عن مقتل 176 شخصا، من بينهم مواطنون إيرانيون وكنديون وألمان وسويديون. وواجهت إيران غضبا شعبيا داخليا فاق التوقعات. وتحوّل الحداد على سليماني إلى غضب عارم ضد النظام ورأسه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
الموقف الأميركي
تأتي رسالة مقتل سليماني بعد أن تبين بأن العقوبات الاقتصادية لم تكبح إيران عن سياساتها العدائية بالرغم من خسارة الميزانية الإيرانية أكثر من 200 مليار دولار. كما أنها تحاول اللعب على التصدع الحاصل في النظام الدولي، وخصوصا الموقف من الاتفاق النووي المبرم معها في عام 2015. هذا الاتفاق الذي اعتبرته إيران بمثابة شيك موقع على بياض لاستمرارها في توسيع نفوذها الإقليمي على حساب أمن وسيادة دول الجوار. كما أن ضبابية بعض بنوده لا تعني إيقافا كليا لبرنامجها النووي.
لذلك وجدت إدارة ترامب نفسها، وفي خضم الاستعداد للحملة الانتخابية، أمام ضرورة ردّ قوي وحازم لردع محاولة تدمير مصداقية ترامب والإضرار برسائل حملته الانتخابية. وتستحضر الإدارة الأميركية الراهنة في هذا السياق ما حدث مع جيمي كارتر الذي كان من أبرز أسباب خسارته للانتخابات أمام رونالد ريغان أزمة الرهائن الأميركيين.
في نوفمبر1979، اقتحمت مجموعة من الطلاب من أنصار الثورة الإسلامية السفارة الأميركية، واحتجزوا 52 أميركيا. رفض المرشد الأعلى آنذاك الخميني الإفراج عن الرهائن. واستمرت الأزمة 444 يوما. وبمجرد تنصيب ريغان، تم إطلاق سراح الرهائن.
إيران كانت أيضا من أسباب صعود ترامب، الذي كان من أبرز وعوده الانتخابية تمزيق الاتفاق النووي. وظل ملفها يلاحقه طوال ولايته الأولى. ومع بدء العد التنازلي لحملة ولايته الثانية، خشي ترامب اتّخاذ خطوات تجعله يبدو وكأنه قد فشل في السياسة الخارجية تجاه إيران، خاصة بعد أن صعدت هذه الأخيرة من سياستها عبر الاعتداءات على ناقلات النفط ومهاجمة منشآت الإنتاج النفطي السعودية، والتحرش بسفارة واشنطن في بغداد، والتعرض للجنود الأميركيين، وإسقاط طائرة أميركية دون طيار في ظل غياب أي رد أميركي رادع على الجرأة الإيرانية المتزايدة التي كانت ستكلف كثيرا الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة، لاسيما بعد أن صرح أمير موسوي مدير “مركز الأبحاث الاستراتيجية”، وهو معهد متشدّد مقرَّب من الحرس الثوري أن “الملف الإيراني يمكن أن يؤدي إلى هزيمة ترامب في انتخابات عام 2020”. لذلك كان القرار بضرورة الحد من وتيرة عملياته ونطاقها.
والواقع أن قاسم سليماني كان ينعت بـ’’محرّك الدمى’’ في الشرق الأوسط، وكان المشرف على حلقة الوصل بين توجيهات الداخل وعمليات الخارج منذ 1998، إذ سبق له أن كشف في رسالته الموجهة إلى الجنرال بترايوس حقيقة الأدوار الذي يقوم بها في المنطقة “إني أنا قاسم سليماني، المسؤول على سياسة إيران في العراق، ولبنان، وغزة وأفغانستان، وأن السفير في بغداد عضو في فيلق القدس، والشخص الذي سيحل محله عضو في فيلق القدس أيضا”.
واتضح لاحقا أن العميد إيراج مسجدي سفير إيران في العراق، كان مستشارا لسليماني قبل أن يتم تعيينه مكان حسن دانائي فر الذي خدم أيضا في فيلق القدس، حيث كشف موقع ميزان الإخباري الإيراني أن مسجدي كان قائدا لقاعدة للحرس الثوري في غرب إيران إبّان الحرب العراقية – الإيرانية، وكان يدير مركزا لجماعات المعارضة العراقية لتخطيط وتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات صدام حسين على أراضي العراق.
ومن ثم كان قرار قتل سليماني بمثابة إعلان عن خطوة جديدة، تفيد في الانتخابات الأميركية وتعيد عقارب البوصلة الإقليمية إلى اتجاهها الصحيح، حيث آليات الخروج من حالة الأزمة المستعصية في سوريا والعراق واليمن ولبنان مرشحة للعبث والفوضى أكثر وأكبر.
فيلق القدس الجناح الخارجي للحرس الثوري هو من يدير بشكل أساسي ومباشر ملف التدخلات العسكرية والأمنية والسياسية في هذه الدول. ويتمتع قائده بمطلق الصلاحيات لاتخاذ القرارات بتزكية مباشرة من المرشد الأعلى. كما أن التناقض بشأن القضايا الإقليمية لم يسفر عن حلحلة للوضع في اتجاه الحفاظ على الأمن والاستقرار، بل أنه بمقارنة سنة 2019 بما كان عليه في 2015، يتضح أن إيران كانت مستفيدة نسبيا مما يجري ويدور من فوضى هنا وهناك.
أصبحت إيران تلعب على حبل التناقضات الدولية بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، سعيا منها لتوفير حماية من أية قرارات دولية ملزمة قد يصدرها مجلس الأمن، وذلك بفضل ما يوفره الفيتو الروسي والصيني لها من مناورة. كما كانت طوال الوقت تبحث عن آليات تجارية جديدة معها تقوم عبر قنوات خفية وسرية في كل من تركيا والعراق وباكستان تسعى من خلالها إلى تقليص أثر العقوبات وفاعليتها.
على حساب الخارطة العربية في المقابل، لم يعد التوتر بين الجانبين العربي والإيراني من قبيل الخلافات العابرة، وإنما بات يشكل رسما لتناقضات جوهرية، يصعب أن تندمل جروحها في الأمد المنظور. تمادت طهران في تسييس الانتماءات المذهبية والطائفية واللعب على أوتارها.
وبالنسبة للمجال العسكري، ثمّة نزوع متواصل من طهران لتطوير الصواريخ الباليستية، بالإضافة إلى دعمها المستمر للجماعات الإرهابية والميليشيات. ويستدل على مضي إيران في سياستها بإصرار فيلق القدس على عدم إغلاق مكاتب التجنيد وإرسال متطوعين أفغان وباكستانيين من أجل الجهاد في سوريا، فضلا عن مد الميليشيات بالأسلحة والتدريب، ثم إن إيران ما زالت ترفض الانسحاب من سوريا. كما تلعب دورا بارزا في استمرار حالة الانقسام الفلسطيني.
أما على مستوى تطبيق حيثيات الاتفاق النووي، فيتبيّن أن إيران كلّما أعلنت عن خطوة إلى الأمام، تراجعت خطوتين إلى الوراء بخصوص الكشف عن كل التفاصيل المرتبطة ببرنامجها النووي، ورفضها معالجة بعض الثغرات فيه بخصوص مدته المحدودة وآلية التفتيش في المواقع النووية. بالإضافة إلى استمرارها في تخصيب اليورانيوم، وعدم إلغاء المفاعل الذي يعمل بالماء الثقيل. وهي تلوح كل مرة بالتدرج في العودة إلى استئناف أنشطتها النووية لدفع الأطراف الأوروبية على وجه الخصوص إلى اتخاذ مواقف رافضة للموقف الأميركي.
المناورة
إجمالا، توحي طبيعة الأحداث والتصريحات والمواقف المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة باستمرار وضع لا حرب ولا تفاوض، وإن كان الضغط الممارس سيدفع إيران إلى مزيد من المناورة ومحاولة امتصاص آثار الضربة الأميركية، في حين ستتحرك واشنطن وفق ترتيبات أجواء الانتخابات الأميركية. لكن من المفارقة، أن كلا من ترامب وخامنئي يحتاجان إلى طرف ثالث يدير الدفة معهما، قد يكون روسيا. فترامب يريد أن يظهر بأنه أنهى انخراط الولايات المتحدة في “حروب لا نهاية لها”، ولا يريد أن يشنّ حربا جديدة تكلفتها باهظة ويرفضها الأميركيون. أما خامنئي، فلا يريد شن حرب مع الولايات المتحدة خوفا من انهيار النظام في ظل الأزمة الاقتصادية الشديدة وتصاعد حدة المعارضة الداخلية.
د. محمد مصدق
صحيفة العرب