سنة العراق: ازمة هدف ام حنين للماضي

سنة العراق: ازمة هدف ام حنين للماضي

 volk

اولا : النشأة السنية للعراق

الحديث عن مأساة السنة في العراق يدفعنا الى تحليل ازمتهم الانسانية والسياسية بعيدا عن كل عواطف مفتعلة و انحيازات مسبقة . ان ما يعانيه سنة العراق اليوم من فقدان لبوصلة الاهداف وتشتت الرؤى لا يعود الى كونهم يحنون الى الماضي القريب الذي كانوا فيه سادة العراق والمتحكمين بمصدر قراره، وانما الى كونهم باتوا أسرى لهذا الماضي بطرقة ديماغوجية لا يرضون – بإرادتهم – الفكاك منه رغم توفر فرص عديدة اتيحت لهم.

من المعلوم ان العراق ظل منذ نشأته التاريخية بعيد الاسلام محكوما بطابع اسلامي سني المعتقد والمنحى الاجتماعي، ولم تغير حركات التمرد التي قام بها الخوارج ثم الشيعة في الكوفة ضد حكم بني امية من خصائص اهل العراق، ولم تؤثر في انحيازهم الى مذهب اهل السنة والجماعة، بل تعزز هذا الانحياز وكبر حينما باتت بغداد قبلة للحضارة الاسلامية، فاندلف اليها العلماء والفقهاء من بقاع الارض ليتعلموا احكام الدين وفقه الشريعة على يد كبار علمائها ومحدثيها وفقهائها.

ويكفي ان بغداد انتجت ثلاثة من فقهاء الامة مازال المسلمون يأخذون احكام سنة نبيهم منهم وهم الامام ابو حنيفة النعمان والامام الشافعي والامام احمد ابن حنبل. ورغم مرور العراق في العصور المظلمة التي القت بظلالها عليه احتلالا وتقسيما وجهلا وتخلفا وابتعادا عن منظومة الدين الحقيقي، الا ان القوى التي احتلت العراق ولاسيما العثمانيون بقيت محافظة على طابع العراق السني، ولاسيما ان القوى الشيعية التي حكمت العراق كالبويهيين والفرس لم تؤسس لفكر سياسي وفقه ديني عميق وهو ما حفظ للعراقيين تمسكهم بأعرافهم واحكامهم السنية.

وساهمت سياسات الدولة العثمانية التي بنيت في الاصل على دوافع دينية في انعزال الشيعة وانحسار مذهبهم في العراق، رغم الدعم المعنوي الذي تلقوه من ايران التي اكتمل تشيعها ابان القرن السابع عشر. مع بداية نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بادر البريطانيون الى انشاء حكومة جامعة لكل العراقيين، الا ان ميراث التخلف الذي عاشه الشيعة بكم الابعاد العثماني لهم وفتاوى مراجعهم الدينية التي حرمت عليهم التعامل مع الدولة الوليدة منعتهم من الانغماس مع السنة في بناء العراق الحديث، وكذلك الحال مع الاكراد الذين جنحوا من البداية بمشروعهم الانفصالي والذين عبروا عنه بتمرد الشيخ محمود الحفيد عام 1919، وبتمرداتهم اللاحقة التي استمرت لغاية 2003 .

وهكذا انفرد السنة واقعيا بحكم العراق مع مشاركة مهلهلة من بعض السياسيين الشيعة المتمردين على احكام المرجعية الدينية، ثم ما لبثت ان تصاعدت تلك المشاركة لاحقا الى مشاركة حقيقية حينما اخذ ساسة العراق على اختلاف توجهاتهم بالانفتاح على فئات الشعب واستقطاب كفاءاتهم وجرهم الى المشروع الوطني .

ثانيا : ملامح الوحدة السنية الشيعية

ومع استمرار اندفاع العراق في مخرجات المدنية التي تمثلت بفتح الجامعات وتوسيع الخدمة العامة، وبناء مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية انخرط عشرات الاف الطلاب الشيعة في سلم الخدمة المدنية والعسكرية، فتخرج منهم الاطباء والصيادلة والمهندسون وضباط الجيش، وصعد منهم الكثير من السياسيين الذين نقشوا اسماءهم في تاريخ العراق الحديث كرؤساء وزراء ووزراء وسفراء وقادة جماهيريين وقادة فكر.

ولم يشهد تاريخ العراق تنازعا مجتمعيا على اساس مذهبي، ولم تتمكن المرجعية الشيعية من لعب دور سياسي تحريضي ضد نظم الحكم في العراق بسبب سطوة تلك النظم احيانا، وغياب الدولة الراعية للشيعة احيانا اخرى، وبسبب فتاوى المرجعية التي نأت آنذاك عن اي دور في الحياة السياسية . ولهذا فقد لعبت الرابطة الوطنية فضلا عن وشائج القبيلة الواحدة واواصر العيش المشترك دورا في جمع شيعة العراق وسنته، فتصاهروا وتجاوروا وتزاوروا في المناسبات الاجتماعية وامتزجت دماؤهم وافكارهم في مواقف وطنية كثيرة سواء في الانتفاضات الجماهيرية او الانقلابات العسكرية او في الملاحم الوطنية، والتي كان من ابرز محطاتها الحرب العراقية الايرانية التي قاد كثير من مفاصلها ضباط سنة وكانت جل بيادقها من الجنود الشيعة.

وانحسر دور المتعصبين ورجال الدين في تأجيج الواقع السياسي وخلق الفتنة وشق الصف الوطني، وبسبب سطوة نظام البعث الذي تسلم الحكم عام 1968 ، لم يتمكن الشيعة من استثمار مفردات القوة الايرانية، التي سعت الى توظيفهم وزجهم في معركتها ضد نظام البعث الذي اعتبر في مرحلة من مراحل الصراع العراقي الايراني سنيا بامتياز .

ثالثا : سنوات المحنة

لكن من المؤكد ان الامور تغيرت بعد احتلال العراق عام 2003 ، فقد سعت الولايات المتحدة ومعها الدول المتحالفة، وفي مقدمتها ايران الى نزع الصفة الجامعة لنظم الحكم العراقية السابقة، وبناء نظام جديد يقوم على المحاصصة الطائفية والقومية كانت نتائجه ان استبعد السنة عن حكم العراق، واعتبروا اقلية مهمشة ومن بقايا نظام صدام حسين ومن الموالين له، والصقت بهم صفة  جديدة زادت من انعزالهم السياسي اذ اعتبروا “سنة وعرب في نفس الوقت”  في توصيف جديد يتنافى مع ابسط مقومات التصنيفات السوسيولوجية، وتم تحميلهم كل تبعات ما حصل للشيعة والاكراد من اضطهاد وعنت وكبت للحريات الدينية والقومية، واتهموا بممارسة شتى انواع الارهاب وانهم متحالفون مع القوى والدول التي تدعم الارهاب.

ومارس حكام العراق الجدد من الشيعة دورا اقصائيا عنيفا ضدهم تمثل في قتل كفاءاتهم وتهجيرهم وسجن شبابهم، وشاعت ولازالت بين اوساط السنة مقولة نسبت في حينها الى رئيس المجلس الاعلى عبد العزيز الحكيم قسم بموجبها السنة لثلاثة اثلاث ، ثلث للتهجير وثلث للقتل والتطبير وثلث للسخرة والعبودية. كانت سنوات الاحتلال ومازالت اقسى مراحل التاريخ التي واجهها السنة، فلم يحدث ان مر السنة بظروف عصيبة اقسى من التي واجهوهها ومازالوا، فلا الاحتلال رحمهم ولا النظم التي تعاقبت على حكمهم شملتهم بروح التسامح والعفو.

وزاد الطين بلة انهم عجزوا عن بلورة مشروع سياسي يوحدهم ويحفظ وجودهم وهويتهم، التي باتت مهددة بالضياع في ظل غياب دعم عربي واستفحال واضح لمشروع تشييع العراق الذي تقوده السلطة ومن خلفها ايران، فقد اعتبر الاحتلال الامريكي السنة مصدر القلق لوجوده ولمخططاته، فهم قد اعلنوا من البدء عن رفضهم للاحتلال، فمع دخول قوات الاحتلال بغداد، انخرطت مجموعات من السنة في عمليات مقاومة شرسة للقوات الامريكية، وكانت ضربات المقاومة العراقية وتكتيكاتها العسكرية، موجعة لدرجة ان اعلان الانسحاب الامريكي لم يأت الا بناء على الاثر العسكري، الذي احدثته تلك الضربات في عموم المشروع الامريكي للعراق.

ولكن بكل اسف فان ما كان ينقص المقاومة العراقية انها افتقدت الى الحنكة السياسية التي تتمكن من خلالها من توظيف الزخم العسكري الى انتصار سياسي يخرج العراق من ربقة الاحتلال ويعيد هيبته واستقلاله السياسي، فكان ان تمكنت السياسة الامريكية ومعها الايرانية من اختراق المقاومة العراقية، وتشتيت جهودها وتوظيف مخرجاتها لاحقا لإيصال الموالين لها في العملية السياسية، فاسقط السنة من ايديهم خيارا مهما كان من الممكن ان يعيدهم الى واجهة حكم العراق.

رابعا : صدمة ما بعد الاحتلال

كان امتناع السنة عن الانخراط في العملية السياسية التي شكلها الاحتلال دليلا اخر على عجزهم عن استيعاب صدمة ما بعد الاحتلال، فقد بقوا متشبثين بحلم العودة الى السلطة من بوابة المقاومة حينا، ومن خانة انتظار فشل المشروع السياسي الامريكي ورجالاته حينا اخر، ولعل سبب تلك الرؤية القاصرة يعود بكل تأكيد الى ان السنة لم يمارسوا دور المعارضة السياسية على شاكلة الكرد والشيعة، فكانوا رجال سلطة وحكم ، ولم يتدربوا على حنكة المعارضة والاعيبها وانتهازيتها في الانتقال من معسكر لآخر ومن دولة لأخرى، الامر الاخر ان الموروث العشائري لرجالات السنة قد اثر بوضوح في عدم وجود رؤية مدنية لنموذج حكم مدني، يمكن ان يقدموه بديلا عن حكم العشائر والطوائف السائد في العراق.

ولهذا بقي التخبط صفة ملازمة للمشروع السني في العراق، فمع بداية الاحتلال تبنى السنة فكرة العودة للمشروع الوطني المتمثل بطرد الاحتلال وعودة الحكومة الوطنية ، ومع فشل المشروع بسبب مقاومة الشيعة والاكراد ومن خلفهم امريكا وايران، تغلغل الحزب الاسلامي لاستثمار المشاعر المتأججة للسنة  لصياغة مشروع اسلامي يتزعمه في العراق، وقد ساهمت انتهازية الحزب وتفريطه بحقوق السنة في اندحار المشروع وموته، ومع فشل المشروع اتجه السنة الى مشروع الدولة المدنية المتمثل بتيار الدكتور اياد علاوي ظنا منهم انه فيه الخلاص للعراق والعراقيين.

ومع عدم تمكن علاوي من تشكيل الوزارة واستمرار الاقصاء والتهميش ضدهم اتجه السنة نحو مشروع الطائفة والهوية الطائفية ظنا منهم انها الملاذ الاخير، الذي يحفظ خصوصياتهم ويحقق مشروعهم السياسي، ومع استمرار تعاطي السنة مع خيار الهوية الطائفية مع ما يجره من امكانية تقسيم العراق الى مناطق فيدرالية، لا تبرز في الوقت الحالي، اي صورة يمكن ان يستند اليها السنة لتحقيق مشروعهم الطائفي، لا لجهة قياداتهم السياسية، ولا لجهة الدولة الراعية لمشروعهم، ولا لجهة القدرة على توظيف الاحداث التي يمر بها العراق اليوم، لصالح تعزيز اوراقهم التفاوضية حيال شركائهم في السلطة، فجل قياداتهم لم تتلوث بالطائفية فحسب، وانما انجرت الى البحث عن مصالحها العشائرية والمناطقية، واخذ الواقع السني يفرز زعامات قبلية ومناطقية تريد الاستئثار بمكاسب السلطة لصالح عوائلها وعشائرها ومناطقها حتى وان اقتضى الصراع استخدام اسلوب التسقيط السياسي والاستعانة بالسلطة ضد بعضهم بعضا. اليوم المشهد السني لا يختلف عن الامس، انقسام وتشتت في الرؤية وضياع لبوصلة المستقبل وقد جر كل ذلك الى ان المناطق السنية باتت مستباحة من مختلف القوى التي تمارس الارهاب على الساحة السنية سواء من قبل عصابات “داعش” او من قبل المليشيات الشيعية الطائفية او من قبل المليشيات الكردية القومية او من قبل قوات الجيش التي تقصف وتدمر وتهجر وتستبيح المناطق السنية دون رادع وطني وانساني . لقد شكلت احداث 10-6-2014 ، وما تبعها من احتلال مسلحي “داعش”، ظاهرة ارهابية وظفها الامريكيون لإعادة خلط الاوراق بما يعيد هيمنة المصالح الامريكية في العراق وتحت ذريعة حماية السنة واعادة التوازن لهم في الواقع العراقي القائم ، وبقيت الولايات المتحدة تصرح بشكل علني وعلى لسان مختلف مسؤوليها، ان سيطرة “داعش” يجب ان تدفع الحكومة العراقية لتعديل مسار العملية السياسية وبما يؤمن مشاركة فاعلة للسنة والا فان (الذئب على الابواب) حسب وصف الرئيس الامريكي باراك اوباما في كلمته الاسبوعية في 21 اغسطس اب 2014 .

لقد اتيحت امام سياسيو السنة فرصة ذهبية لاستثمار تقدم مسلحي “داعش” نحو بغداد لتغيير الواقع السياسي على نحو جديد يؤمن جزءا من مطالبهم بالمصالحة وتحقيق التوازن واطلاق سراح ابنائهم المعتقلين وعودة ضباطهم، الان انهم اثبتوا كعادتهم عدم اهليتهم لقيادة الواقع السني، لقد قدموا مظلوميتهم قربانا على مذبح المصالح الامريكية في تقسيم العراق، لقد افقدوا التاريخ مصداقيته التي اكدت ان السنة ظلوا على الدوام صمام امان لقوة العراق ووحدته .

محمد العزاوي