لم يتحول موضوع الوجود الأميركي إلى موضوع جوهري في السجال السياسي إلا بعد قيام الولايات المتحدة بقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، قرب مطار بغداد في 2 كانون الثاني/ يناير 2020، وهو ما دفع مجلس النواب يوم 5 كانون الثاني/ يناير 2020 إلى اتخاذ قرار “يلزم” الحكومة العراقية بـ “إلغاء طلب المساعدة المقدم منها إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعشو”يطلب” منها العمل على إنهاء وجود “أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية، ومنعها من استخدام الأراضي والمياه والأجواء العراقية لأي سبب كان”.
وبغض النظر عن قانونية «قرار» إخراج القوات الأمريكية من العراق، فإنه ايضا كما كل القرارات المفصلية في مجلس النواب العراقي لا يحظى بالاجماع وتتباين فيه المواقف. فقد كشفت المواجهة الأمريكية الإيرانية على أرض العراق، طبيعة التباين الواضح في موقف الهويات الفرعية من هذه المسألة، فقد رفضت الكتل الكردية والسنية هذا القرار (لم تحضر الإجتماع أصلا)، في مقابل شبه إجماع للكتل الشيعية عليه! وكان لافتا أن رئيس مجلس النواب (السني)، الذي كان يردد دائما عبارة «تجاوز الطائفية» لم يترأس هذه الجلسة، من أجل أن لا يحسب هذا القرار عليه أمريكيا، بل ترك ذلك لنائبه، وتحدث بكل صراحة عن أن هذا القرار هو قرار «شيعي» وليس قرارا للمجلس ككل!
وإزاء هذا القرار، بدت تصريحات نيجافان بارزاني حادة بشأنه، من خلال تأكيده أن «القرار الذي اتخذه مجلس النواب العراقي لم يكن قرارًا جيدًا، وأن الكورد والسنة لم يشاركوا فيه. علاوة على ذلك، فإنه يشكل سابقة سيئة، حيث اتخذ القرار من قبل الكتلة الشيعية، دون التشاور مع أي من المكونات الرئيسية لهذا البلد: الكرد والسنة العرب»، مبينًا أنها «كانت خطوة حاسمة للغاية تم اتخاذها دون السعي للحصول على إجماع، وبالتالي تنتهك روح الدستور العراقي».
وأشار بارزاني إلى أن «السؤال الذي يجب أولاً معالجته هو: لماذا القوات الأميركية موجودة هنا؟ إنهم هنا بناء على دعوة من الحكومة العراقية في عام 2014، وبالتشاور مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عندما كان (داعش) على مشارف بغداد»، وأضاف: «السؤال الثاني هو: هل الوضع الحالي في العراق يبرر انسحاب القوات الأميركية وقوات التحالف بالنظر إلى مهمتها، وهي المساعدة في هزيمة (داعش)؟ نحن حكومة إقليم كردستان نشعر بالقلق لأن الإجابة (لا) بوضوح، حيث تشير جميع المعلومات الاستخباراتية إلى أن (داعش) أعاد تجميع نفسه، وأنهم يقومون بهجمات ضد أهداف عراقية بشكل يومي. ومن هنا، فإن مصلحة كردستان تهم القوات الأميركية بقدر ما هي في صالح العراق بأسره».
وقال بلال وهاب، زميل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: «لقد تصرف البرلمانيون الأكراد بشجاعة بالغة بالابتعاد عن التصويت البرلماني»، حسب تعبيره. وأشار إلى أن المشرعين الأكراد تلقوا رسائل تهديد من الميليشيات الشيعية، بما في ذلك كتائب حزب الله، التي قُتل مؤسسها أبو مهدي المهندس إلى جانب سليماني في الغارة الأمريكية. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا رفض كورد العراق قرار مجلس النواب العراقي؟ ولعل هناك بعدين ساهما في بناء ذلك الرفض :
أولًا- يمثل الوجود العسكري الأمريكي في العراق، دعمًا سياسًا للكورد، فمن جانب، يضمن وجودهم عدم استحواذ الطبقية السياسية الشيعية على الحكم العراق بمفردهم. كما أن وجودهم يمثل فرصة لتعزيز حلمهم المنشود في قيام دولتهم المستقلة سواء في المستقبل القريب أو المتوسط المدى.
كما أن الكورد برفضهم المشاركة وليس التصويت فقط هي بمثابة رسالة من القيادة السياسية في إقليم كوردستان العراق، للولايات المتحدة الأمريكية مفادها: أن إقليم كوردستان العراق يقدر بشكل كبير التحالف الوثيق بينهما منذ عام 2003م وإلى يومنا هذا، وأن إقليم كردستان العراق حليف استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط تستيطع الولايات المتحدة الأمريكية الاعتماد عليه في مواجهة التحديات المشتركة.
ثانيًا- يمثل الوجود العسري الأمريكي في العراق، سندًا عسكريًا وأمنيًا لإقليم كردستان العراق في مواجهة مخاطر تنظيم داعش الإرهابي، فالكورد واستشعارًا منهم بخطورة داعش الإرهابي على مقتربات خطوط وجود البيشمركة، حسموا موقفهم برفض ذلك القرار، بما في ذلك عدم المشاركة في جلسة مجلس النواب التي صوتت على إخراج القوات الأمريكية من العراق.
فمن الناحية الأمنية تستند الرؤية الكوردية في إقليم كردستنان العراق على ضرورة بقاء القوات الأمريكية في العراق للولايات المتحدة وجودٌ عسكري، مهما كان متواضعاً، لضمان هزيمة تنظيم داعش الإرهابي بشكل نهائي. وفي المقابل، إذا أدّى مقتل سليماني إلى انسحاب القوات الأمريكية المنخرطة في العمليات المحلية ضد التنظيم، فسيشكّل ذلك ضربة كبيرة للحرب على الإرهاب. فحتى بعد أن خسر تنظيم آخر معاقل خلافته في آذار/مارس 2019، كان لا يزال قادراً على تنفيذ 867 عملية إرهابية داخل العراق وحده خلال الفترة المتبقية من العام. ولا شك في أن عدد هذه الهجمات وشدتها سوف يزداد في غياب الضغط العسكري الذي تمارسه القوات الأمريكية والحليفة. ك
ما أن العمليات المستمرة ضد المعاقل التي ينشط فيها التنظيم بنفس القدر في سوريا ستقوَّض هي الأخرى بشكل فتّاك. مبينة أن هناك مخاطر محتملة لجيوب داعش المتنامية في كثير من المناطق التي تم تحريرها، واحتمال عودتها بقوة بعد خروج قوات التحالف الساندة جوياً واستخبارياً وتكنولوجياً.
وتقدّر الأمم المتحدة أن تنظيم داعش الإرهابي لا يزال يملك احتياطاً تصل قيمته إلى 300 مليون دولار لدعم حملته الإرهابية، بينما يشير المسؤولون الأكراد إلى أن التنظيم أعاد اليوم رصّ صفوفه سراً في العراق متجهّزاً بـ “تقنيات أفضل وأساليب أفضل”.
إنّ الخروج “المبكر” لهذه القوات قد يعيد سيناريو عام 2014 مرةً أخرى، أي عودة داعش، ومن ثمّ تشكيله خطرًا حقيقيًا. كما أن أي قرار سياسي حاسم بشأن خروج القوات الأميركية قد يفتح المجال أمام رفض كردي لقرار على هذا النحو؛ لذا فإنّ بقاء القوات الأميركية في إقليم كردستان، خاصة إذا ما قررت الولايات المتحدة إعادة النظر في قرارها بشأن “استقلال” هذا الإقليم أو إذا ما دعمت بشكل مباشر قوى سُنية في اتجاه إعلان تمسكها ببقاء القوات الأميركية في العراق في مناطقها، وهو ما يهدد وحدة البلاد بشكل جدّي>
فالكورد يرون إن العراق لغاية الآن غير مستقر من الناحية الأمنية والسياسية، وحتى الاقتصادية، حتى يُعمَل على إخراج القوات الأميركية منه. فهذا الوجود الأميركي يساهم بقوة في القضاء على تنظيم داعش، وخصوصاً من خلال الضربات الجوية التي كان لها الأثر البالغ في إنهاء وجوده في العراق”. ويعتبرون أن إنهاء الوجود الأميركي في العراق سيفقده بوصلة التوازن، فهناك فصائل مسلحة، تتحدث علناً عن أنها مع إيران، حتى لو كانت الحرب مع العراق. إن الوجود الأميركي يحجم ويقلّل من نفوذ طهران داخل الساحة العراقية. وأن “القوى السياسية، الكردية ، تتخوف من إنهاء الوجود الأميركي خشية سيطرة تلك الفصائل المسلحة على الساحة العراقية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً”. وإن الحديث عن إنهاء الوجود الأميركي يجب أن يسبقه شرط أن يكون العراق سيد نفسه وتكون قواته الأمنية الرسمية هي المسيطرة على الوضع الأمني، وهذا يحتاج إلى وقت وليس الآن.
وعليه تستند الرؤية الكوردية إلى أن المواقف والدعوات لإخراج المتعجل للقوات الأميركية من العراق تبدو تحركات غير مدروسة، وتنطوي على أبعاد بعضها مصلحي وانتهازي، بينما يحمل بعضها الآخر تعاطفًا مع دول الجوار، وهذا لا يتناسب مع طبيعة العلاقات والالتزامات الدولية التي تلزمها ثوابت يجب مراعاتها في النهاية.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية