من أبرز ملامح الدولة العراقية بعد العام 2003، غياب منطق الدولة لصالح منطق الجماعات السياسية التي تدعي تمثيل مكونات اجتماعية قومية او دينية اومذهبية تتسم ذاكرتها بالتشظي والانقسام. من أجل تحقيق مصالحها الخاصة «المتوهمة» بعيدا عن مصالح الآخرين، ليست الهوياتية فقط، بل الشخصية أحيانا! الأمر الذي أفضى إلى انقسام سياسي صارخ على مستوى العلاقات الخارجية، على مستوى الموقف مما يحدث إقليميا. ولم تستطع البروباغاندا عالية الصوت حول «عبور الطائفية» أو تجاوزها، أن تغطي على هذا الانقسام لأنه كان يحضر، وبقوة، في كل أزمة سياسية أو موقف مفصلي، لذلك فشلت هذه الجماعات السياسية في إنتاج موقف واحد يمكن وصفه بأنه كان تعبيرا عن منطق الدول طوال هذه المرحلة!
في لقائه الرئيس الأمريكي ترامب، أثناء اجتماعات دافوس يوم الأربعاء 21 كانون الثاني/يناير 2020، كان الرئيس العراقي يتحدث عن «المصالح المشتركة بين البلدين»، فيما كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، التي حدثت في العراق، بأنها كانت «عملا عظيما» أنجزه الأمريكيون، وحضر اللقاء وزير المالية العراقي وهو الذي مثل الحكومة العراقية في جنازة سليماني في طهران في مفارقة لافتة! في الوقت نفسه يتخذ البرلمان العراقي، بدفع من القوى السياسية الشيعية، قرارا شعبويا لا قيمة دستورية او قانونية له؛ «يلزم» الحكومة العراقية «بالغاء طلب المساعدة المقدم منها إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش»، و«يطلب» منها العمل على «إنهاء تواجد أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية، ويمنعها من استخدام الأراضي والمياه والأجواء العراقية لأي سبب كان»، وتدعو إلى تنظيم مظاهرة «مليونية» للتنديد بالتواجد الأمريكي في العراق!
وبغض النظر عن قانونية «قرار» إخراج القوات الأمريكية من العراق، فإنه ايضا كما كل القرارات المفصلية في البرلمان العراقي لا يحظى بالاجماع وتتباين فيه المواقف. فقد كشفت المواجهة الأمريكية الإيرانية على أرض العراق، طبيعة التباين الواضح في موقف الهويات الفرعية من هذه المسألة، فقد رفضت الكتل الكردية والسنية هذا القرار (لم تحضر الإجتماع أصلا)، في مقابل شبه إجماع للكتل الشيعية عليه! وكان لافتا أن رئيس مجلس النواب (السني)، الذي كان يردد دائما عبارة «تجاوز الطائفية» لم يترأس هذه الجلسة، من أجل أن لا يحسب هذا القرار عليه أمريكيا، بل ترك ذلك لنائبه، وتحدث بكل صراحة عن أن هذا القرار هو قرار «شيعي» وليس قرارا للمجلس ككل!
أشار الرئيس برهم صالح في دافوس أيضا إلى حركة الاحتجاج المستمرة منذ ثلاثة أشهر، وأدان ما أسماه أعمال العنف التي يرتكبها «خارجون على القانون» التي أدت إلى مقتل أكثر من 600 من «المتظاهرين الأبرياء السلميين»، لكنه كغيره من المسؤولين في كارتل الدولة/ السلطة لم يحل «لغز» هؤلاء الخارجين على القانون الذين يقتلون المتظاهرين في وضح النهار مع أن كل القوى الأمنية بمختلف مسمياتها (الشرطة الاتحادية، وقوات الرد السريع، وقوات مكافحة الشغب، وقوات سوات)، وبعض القوى العسكرية، وبضمنها الحشد الشعبي حسب التوصيف القانوني والرسمي، كانت الفاعل الوحيد ميدانيا، في عمليات القتل هذه!
العراق ما يزال بعيدا تماما عن إنتاج العقلنة او إنتاج منطق للدولة بعيدا عن المصالح الضيقة، الحقيقية أو المتوهمة، لهويات الفاعلين السياسيين الفرعية، أو مصالحهم الشخصية
وفي الوقت الذي يتحدث فيه رئيس الدولة عن عدد ضحايا الاحتجاجات، يخبرنا الناطق الرسمي باسم القائد العام للقوات المسلحة بأن ثمة «مبالغات» في أعداد ضحايا (رفض في لقاء تلفزيوني قبل يوم واحد من حديث رئيس الجمهورية، أن يكون عدد الضحايا قد بلغ 448)، وأن ثمة تدليسا في توصيفهم بأنهم ضحايا الحركة الاحتجاجية، لأن اغلبهم هم ضحايا «حوادث جنائية»، وانه لم يسقط أحد بالرصاص! ودليله في ذلك تصريحات السيد رئيس مجلس الوزراء الذي أعلن اكثر من مرة أنه قد أعطى أوامر مشددة بعدم استخدام العتاد الحي ضد المحتجين، وهو ما تكرره القيادات الأمنية والعسكرية دائما! فمن يمثل الدولة هنا؟
في العام 2009 زار الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني العراق، حينها ظهرت ثلاثة مواقف مختلفة عكسها مجلس الرئاسة وممثلوه الكرد والشيعة والسنة؛ فرئيس الجمهورية الكردي وصف رفسنجاني بأنه «أعز صديق للشعب العراقي»، وأنه «كان دائما نصيرا ومساعدا للعراقيين في أيام النضال ضد الدكتاتورية»! وتحدث عضو مجلس الرئاسة الشيعي عن سعي العراق الدائم إلى «تطوير علاقاته مع دول الجوار التي طالها ظلم واستبداد النظام الدكتاتوري السابق»، لكن عضو مجلس الرئاسة (السني) تهرب حينها عن لقاء الضيف الزائر، وأصدر الحزب الذي ينتمي اليه بيانا يصف الزيارة بأنها «غير مرحب بها»!
وبعد اندلاع الثورة السورية، تباينت مواقف الرئاسات الثلاث الكردية والشيعية والسنية مجددا لتعكس مواقفهم كأشخاص وممثلين لجماعات ذات مصالح هوياتية مختلفة، بل وكنا هذه المرة أمام مواقف مختلفة داخل الهوية الواحدة وفقا للتاريخ الشخصي والذاكرة والمختلفة، ولم نكن أمام موقف للدولة العراقية! فالطبقة السياسية الشيعية التي كانت تتوجس من النظام «البعثي» في سوريا، إلى حد مطالبة رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي حينها مجلس الأمن بإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية، غيرت موقفها لتصبح داعما رئيسيا للنظام خشية من وصول «الأكثرية السنية» إلى الحكم، وبالتالي تغير المعادلة الجيوسياسية ضد مصلحتهم! فيما كانت الطبقة السياسية السنية، التي كانت ترى في النظام (البعثي/ القومي) السوري حليفا لها، تنقلب عليه لتتحول إلى داعمة للثورة السورية على لسان رئيس مجلس النواب! وانقسم الموقف الكردي أيضا بين رئيس الإقليم الداعم للثورة، وصمت رئيس الجمهورية الكردي بسبب علاقاته التاريخية مع النظام السوري من جهة، وعلاقته الاستراتيجية مع إيران، حليفة النظام السوري، من جهة ثانية!
هذا المشاهد، كما مشاهد غيرها (الموقف من ازمة البحرين، وطريقة من مواجهة داعش، والموقف من الحرب في اليمن)، إنما كانت تعكس المواقف الهوياتية للفاعلين السياسيين، بوصفهم ممثلين لجماعات تمتلك ذاكرة متباينة ومصالح مختلفة، في حين كان على ممثلي الدولة أن ينتجوا خطابا موحدا باسم الدولة العراقية فقط!
في تحليله لطبيعة الدولة ووظائفها، يشير دوركهايم إلى أن الوظيفة الأساسية للدولة، بوصفها مؤسسة، هي التفكير. و يشير أيضا إلى أنها عضو العقلانية، ومن ثم، فإنها لا يجب أن تبقى في حالة انقياد لعواطف مواطنيها، إن دورها لا يكمن فقط في التعبير عن أهواء العامة، بل في إضافة فكر مترو لا يمكنه في النهاية إلا أن يكون مختلفا. وبالتأكيد فإن دوركهايم يتحدث هنا عن الدولة بوصفها «بنية فوقية» خارج سياق التعددية الهوياتية، ومن الواضح أن العراق ما يزال بعيدا تماما عن إنتاج هذه العقلنة او إنتاج منطق للدولة بعيدا عن المصالح الضيقة، الحقيقية او المتوهمة، لهويات الفاعلين السياسيين الفرعية، أو مصالحهم الشخصية.
يحيى الكبيسي
القدس العربي