لم يكن في وسع المرء، إلا نظرياً وفي مستوى الافتراض فقط، اقتحام المحفل الذي انعقد في القدس المحتلة يوم أمس تحت شعار «تذكّر المحرقة، محاربة العداء للسامية»؛ وتقديم هدية متواضعة إلى ساسة تقاطروا من 50 بلداً، في أوروبا (رؤساء فرنسا، روسيا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، البرتغال، فنلندا، هنغاريا، كرواتيا، ألبانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، مقدونيا، الجبل الأسود، رومانيا، صربيا، أوكرانيا، بلغاريا، جورجيا، لتوانيا؛ وملوك إسبانيا، هولندا، النروج، بلجيكا، ولي عهد بريطانيا؛ ورؤساء حكومات الدانمرك، السويد، التشيك؛ ومن الاتحاد الأوروبي رؤساء المجلس والمفوضية والبرلمان)؛ ومن أمريكا الشمالية (نائب الرئيس الأمريكي ورئيسة البرلمان نانسي بيلوسي، وممثل عن كندا)؛ وأمريكا الجنوبية (الأرجنتين)…
الهدية المتواضعة هي مجموعة من المؤلفات، الصادرة في الغرب وليس في الشرق، وبعضها وضعه كتّاب يهود؛ حول إشكالية الهولوكوست حين ينقلب إلى صناعة معقدة متكاملة، تخوّل أحفاد ضحايا واحدة من أفظع مآسي التاريخـ أن يمارسوا دور الجلاد من دون مساءلة، بل بمباركة أو تبرئة أو مشاركة بذريعة تكريم الضحية. كما تتيح تلك الصناعة، أيضاً، تبرئة بعض الأسلاف من معاصري الهولوكوست، لجهة تواطؤ هؤلاء مع الجهات النازية ذاتها التي نظمت معسكرات الاعتقال والإبادة. بين تلك المؤلفات، وسواها أخرى كثيرة كذلك، في وسع ضيوف القدس المحتلة الكبار أن يقرأوا تيودور هامرو، في «لماذا وقفنا متفرجين: أوروبا، أمريكا، والهولوكوست»؛ ومايكل جونز، في «قضية وليامسون: الكنيسة الكاثوليكية وإنكار الهولوكوست»؛ وإدوين بلاك، في «الآصرة النازية: صلات الشركات الأمريكية بهولوكوست هتلر».
ويصحّ أن يتصدر الهدايا هذه ذلك العمل الشهير الذي وضعه الباحث والمؤرّخ الأمريكي ـ اليهودي نورمان فنكلستين، تحت عنوان ”صناعة الهولوكوست: تأملات في استثمار المعاناة اليهودية”؛ الذي برهن أنّ استثمار مآسي اليهود كان، ويظلّ، صناعة حقيقية، بل وصناعة ثقيلة أيضاً، سال فيها وحولها مداد كثير، وصُرفت أموال طائلة طائلة، استهدفت تحويلها إلى قوّة جبّارة تستثمر العذاب وتبيعه، بعد تضخيمه وتحريفه وابتذاله. ورغم أنّ كتاب فنكلستين يُعتبر كرّاساً صغيراً (أقلّ من 150 صفحة) بالقياس إلى أعماله السابقة حول القضية الفلسطينية وتاريخ إقامة دولة الاحتلال، فإنّ أهميته الكبرى تكمن في إسقاط الأقنعة عن السياسة التي تصنعها الملايين والمليارات؛ وما ينشأ عنها من مؤسسات هائلة تعمل في خدمة تبييض السياسات الإسرائيلية أوّلاً، وفي تنقية صفحتها لجهة انتهاك حقوق الإنسان وإعادة إنتاج التقاليد النازية ذاتها ثانياً. ولعلّ الزوابع التي أثارها الكتاب، في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، كانت تدور ضمناً حول هذا ”التسييس” غير المسبوق لقضية لم تكن جوانبها الاستثمارية خافية تماماً في كلّ حال. لائحة التُهم التي وُجّهت إلى فنكلستين بدأت من أنّ الرجل ”سُمّ يهودي”، و”يهودي كاره لذاته”، و”يهودي مُصاب بانفصام الشخصية”؛ وبالطبع، كان لا بدّ أن تنتهي اللائحة الطويلة عند التهمة العتيقة العريقة دون سواها: ”يهودي معادٍ للسامية”!
لعلّ مشاركة الرأسمالية العالمية في محفل القدس المحتلة كان الدليل الأحدث على مقولة المفكرة اليهودية حنّة أرتدت: أنّ الهولوكوست تفصيل صريح فاجع، في تراث رأسمالي غربي، وحشي وعريق
لكنّ فنكلستين ليس أوّل يهودي يناقش الهولوكوست من هذه الزاوية الناقدة؛ إذْ سبقه راؤل هيلبرغ (الذي يُعدْ حجّة في دراسات الهولوكوست، إلى جانب كونه ــ مثل فنكلستين في الواقع ــ سليل أسرة ذاقت عذاب معسكرات الاعتقال النازية)؛ وقبلهما كان وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق الشهير أبا إيبان قد أطلق عبارته المأثورة: ”ما من بزنس يشبه بزنس الهولوكوست”. أكثر من هذا، دخلت لفظة ”هولوكوست” إلى قاموس المعيش اليهودي اليومي، فأصبحت مصدراً وفعلاً وصفة، وشاع استخدامها في سياقات عجيبة متنافرة متباعدة. على سبيل المثال، حين شاهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين فيلم فولكر شلوندورف الشهير ”لائحة شندلر” فلم يعجبه، حكم بأنّ الشريط ”ليس هولوكوستياً كفاية”. وفي الخطاب العامي اليهودي بات مألوفاً وصف الزواج المختلط، بين اليهود وغير اليهود، أنه ”هولوكوست صامت”. وهذا النوع بالذات من إشاعة اللفظة أفسح المجال أمام اشتقاقات تندّرية في صفوف اليهود أنفسهم: ثمة Holokitsch، التي تلعب على مفردة Kitsch، أو سقط المتاع؛ وHolocash، التي توظّف مفردة Cash، المال السائل.
هذا إذا لم يضف المرء إلى طرد الهدايا كتابين صدرا باللغة العبرية، وكانا رائدين في مدّ المراجعات النقدية لمعنى الهولوكوست في الذاكرة الإسرائيلية المعاصرة: الأوّل هو «الموت والأمّة: التاريخ، الذاكرة، السياسة»، للمؤرّخة الإسرائيلية إديث زيرتال؛ والثاني عنوانه «في ظلّ الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية»، لأستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب يوسيف غرودزنسكي. أهمية الكتابين تتصل باعتبارات راهنة شهدها المحفل الذي احتشد في القدس المحتلة يوم أمس، على رأسها التباس جوهري بين الذاكرة والتاريخ، والعاطفة والوثيقة، واستيهام التاريخ وتدوينه وقائعياً. ذلك لأنّ إحياء ذكرى سقوط معسكر أوشفتز (على يد القوّات السوفييتية، للتذكير المفيد)، وتحرير قرابة 7000 يهودي ممّن تبقوا فيه ساعة اقتحامه؛ هو حقّ لا جدال فيه لضحايا المعسكر، وهو أيضاً أمر واجب على الإنسانية جمعاء لأسباب تاريخية وتربوية وحقوقية شتى.
غير أنّ الذكرى ليست ملكاً خالصاً للضحايا، من جانب أوّل؛ وهي، من جانب ثانٍ، لم تعد رهينة الذاكرة وحدها، بل باتت تاريخاً تجب دراسته واستخلاص الدروس منه؛ وهي، ثالثاً، ليست حكراً على دولة الاحتلال، ولا حتى على ضيوفها القادمين من المخلفات الدامية للحرب العالمية الثانية. إنها تخصّ الإنسانية جمعاء، ولهذا فإنّ كتاب غرودزنسكي ينصف ضحايا الهولوكوست من زاوية غير مألوفة أبداً: دور المؤسسة الصهيونية في صناعة الهولوكوست، وكيف انطوى ذلك الدور على تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم الحلّ النهائي لإبادة اليهود. ليست الوقائع التي يذكرها غرودزنسكي جديدة، بالطبع، ولكنه هذه المرّة يتناولها وقد وُضعت في سياقات جديدة تماماً تخصّ هذا الجانب تحديداً: كيف جرى، ويجري، تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية صرفة تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، سلسلة الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا وآلامهم وتضحياتهم؛ وكيف جرى، ويجري، الضغط على ضحايا الهولوكوست، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلى فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً.
وفي العام 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين؛ الذي حرص قبل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى غيتو فلسطيني قسري. ويومذاك، كان اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (أحد الناجين من الهولوكوست) قد نشر كرّاساً صغيراً يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ»ماباي»، حزب دافيد بن غوريون) بالاتفاق مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.
وأمّا في العام 2020 فإنّ خَلَف رابين، بنيامين نتنياهو، يدشن محفل «تذكّر المحرقة، محاربة العداء للسامية» على مبعدة أمتار قليلة من جدار الفصل العنصري، والمستوطنات غير الشرعية، وهدم عشرات البيوت السكنية، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وتشريع الهوية اليهودية للكيان الصهيوني… وهذا، في كلّ حال، ليس من دون إثارة غضب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على أعتاب كنيسة سانت آن في المدينة العتيقة، بسبب تجاسر الأمن الإسرائيلي على انتهاك «قواعد قائمة منذ قرون»؛ وليس، أيضاً، من دون أن يُتوّج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإكليل «صديق صهيون»! ولعلّ مشاركة الرأسمالية العالمية، كما تتصدرها اليوم أوروبا وأمريكا، في محفل القدس المحتلة، كان الدليل الأحدث على مقولة المفكرة اليهودية حنة أرتدت: أنّ الهولوكوست تفصيل صريح فاجع، في تراث رأسمالي غربي، وحشي وعريق.
صبحي حديدي
القدس العربي