تواجه الميليشيات العراقية الموالية لإيران تحديات نوعية بعد مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي كان يدير تحركاتها وينسق في ما بينها، وذلك مع انحسار نفوذها السياسي والميداني بعد إطاحة الاحتجاجات الشعبية برئيس الوزراء عادل عبدالمهدي. وأمام خطر فقدان الميليشيات لحزام سياسي في الحكومة العراقية المرتقبة، تدفع الميليشيات إلى التغطية على الاحتجاجات المناهضة للحكومة والتي كانت بمثابة تحدّ لسيطرة الفصائل على السلطة عبر استنهاض مشاعر الكراهية والعداء للولايات المتحدة.
بغداد – أعطى قتل الولايات المتحدة للقائد العسكري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في بغداد هذا الشهر دفعة جديدة لحلفاء إيران في العراق الذين باتوا يستشعرون خطر تلاشي مكاسبهم السياسية بعد تفجر موجة احتجاجات شعبية ذاقت ذرعا بالمحاصصة الطائفية والأجندات الخارجية في إدارة شؤون البلاد.
وتواجه الميليشيات الإيرانية، الذراع العسكرية، للأحزاب السياسية تحديات كبيرة على أرض تفجرت فيها الأورام الاجتماعية بعيدا عن منطق الولاء والمذهب والتخوين، إذ يطالب المحتجون العراقيون منذ أكتوبر الماضي بحكومة وطنية تحارب الفساد وتعالج الاقتصاد المتدهور.
أمام تمسك المحتجين بشعارات لا للمحاصصة ولا للمذهبية “نريد عراقنا”، وجدت الميليشيات والأحزاب الموالية لإيران نفسها أمام خيارين، فشل الأول وهو امتصاص غضب الشارع في تحقيق الأهداف فباتت تفكر مليّا في الخيار الثاني وهو خيار “الفوضى الخلاقة” علّها تفرز وضعا جديدا تستطيع من خلاله إعادة التموقع.
عداء واشنطن للمّ الشمل
مع اشتداد وطأة الاحتجاجات وتمسك المحتجين بمطالبهم الأساسية وهي حكومة وطنية ولاؤها للعراق فقط باتت إيران تشعر بالخطر على مصالحها وخارطة نفوذها، فعدم القدرة على إخماد الاحتجاجات والتورية عنها عبر وسائل عدة باتت طهران تخشى تمرد ميليشياتها أيضا.
وللتعامل مع هذا الوضع كثفت القيادات السياسية المتحالفة مع إيران الدعوات هذا الشهر لانسحاب القوات الأميركية في ما يعد استعراضا نادرا للوحدة بين الفصائل الشيعية المتنافسة، لكن نوابا عراقيين لا يتوقعون أن تستمر هذه الوحدة لفترة طويلة وستستمر الصراعات على السلطة.
وربما تتأخر العملية أكثر من ذلك بسبب الخلافات بين مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري ومنافسه السياسي الرئيسي هادي العامري الذي يملك تحالف الفصائل المدعومة من إيران بزعامته نفوذا كبيرا في البرلمان.
وللمرة الأولى منذ قرابة عامين تم التصويت في البرلمان على أساس طائفي على مطالبة الحكومة بإخراج القوات الأميركية من البلاد. وصوّتت الأحزاب الشيعية بالموافقة على الاقتراح بينما قاطع النواب السنة والأكراد الجلسة.
وقال سياسي عراقي كبير، في تصريحات لوكالة رويترز، مشترطا عدم نشر اسمه “عندما واجه العراق تحدي تنظيم الدولة الإسلامية الأمني كانت هناك عملية سياسية صحية لكن البلد الآن مفتت واختفت تلك العملية”.
لطالما سعت إيران والميليشيات الموالية لها إلى انسحاب القوات الأميركية من العراق، وجاء مقتل قاسم سليماني قوة دفع جديدة لهذا الجهد. لكن هناك الكثير من الأسئلة العالقة حول ما إذا كانت إيران حقا قادرة على الاستفادة من الموقف.
إن انسحاب القوات الأميركية من العراق سيكون انتصارا لإيران. وقد اتبعت طهران منذ فترة طويلة استراتيجية ذات شقين لدعم الولايات المتحدة؛ الميليشيات التي تنفذ الهجمات، وكذلك ممارسة الضغط السياسي على المشرعين العراقيين المتعاطفين مع قضيتها.
ولعل أكثر ما أوضحته الانتفاضة العراقية اليوم هو حجم الرفض لهيمنة الأحزاب والشخصيات الفاشلة والفاسدة أولا، وللنفوذ الإيراني في البلاد ثانيا، وللمحاصصة المقيتة وللطائفية ثالثا. والأهم أن هذا الرفض انفجر في المحافظات الجنوبية التي تسكنها غالبية كانت إيران، والأحزاب الطائفية التي تسير في فلكها أو التابعة لها، تدعي بأنها تمثلها وتحرص على حماية مصالحها وأنها تشكل بيئتها الداعمة.
وزاد نفور العراقيين من إيران بعد أن وصفت طهران الانتفاضة الشعبية العراقية بأنها مؤامرة أميركية-إسرائيلية، في وقت يعرف قادة إيران، قبل غيرهم، أن هذه الهبة الشعبية في أساسها جاءت بسبب حجم فساد النماذج الحاكمة التي يدعمونها وحجم فشلهم في إدارة البلاد وحجم الرفض الذي يحمله العراقيون لهم ولبقائهم في الحكم.
انقلاب الميليشيات
ليس من اليسير على القيادة الإيرانية أن تبتلع حقيقة أن كل ما خططت له من أجل فرض وصايتها على العراق، منذ تسلمت مفتاحه، منذ الغزو الأميركي وبداية تطبيق فكرة الفوضى الخلاقة التي بشّرت بها كونداليزا رايس يوم احتل الأميركيون العراق.
تواجه طهران اليوم حقيقة أن ما عملت عليه منذ عقد من الزمن ذهب أدراج الرياح وأن شيعة العراق الذين أدرجتهم ضمن رعيتها لم يكونوا في حقيقة الأمر كذلك بل هم اليوم يقفون في مواجهة مشروعها، لا من أجل إنهاء هيمنتها على العراق فحسب بل وأيضا من أجل قطع الطريق التي تيسّر لها خط الإمداد الذي يصل إلى سوريا ولبنان واليمن.
ويبدو أن الأحزاب، التي صارت تشعر بأن زمن نهاية هيمنتها قد بات قريبا، تحاول اليوم كسب المزيد من الوقت من أجل إعادة ترتيب أوراقها بعد أن تم تقييد قدرتها على استعمال ميليشياتها في القمع المباشر.
عملت إيران في عدد من البلدان العربية على تشكيل عدة ميليشيات. ويمكن لطهران الاعتماد على هذه الميليشيات في حال نشوب نزاع مع الولايات المتحدة، لكن إلى أي مدى تبقى هذه المجموعات وفية للجهة الراعية لها؟
كان قاسم سليماني وحلفاؤه في المنطقة أكثر العارفين أن الاحتجاجات الشعبية في العراق تُشكل تهديدا خطيرا على المشروع الإيراني. فعندما قُتل، كان واصلا لتوّه من دمشق إلى بغداد كجزء من محاولاته لمعالجة الوضع المتوتر.
كان سليماني مُنشغلا بالتعامل مع هذه التحديات المحلية المحتدمة التي يواجها هو وحلفاؤه، كما أن الهجمات على السفارة الأميركية وعلى قاعدة عسكرية كانت مُصممة جزئيا لتحويل الانتباه عن الاحتجاجات.
ورغم أن موته لا يشكل نهاية مشروع الهيمنة الإيراني، إلا أنه يمثل ضربة قوية لقدرة النظام على توسيع نفوذه والتعامل مع الأزمات المتأججة. ففي جميع الدول التي أوجدت فيها إيران نفوذا عميقا، تُرِك حلفاؤها معرضين لخطر التوجهات الشعبية والمنافسين المحليين. فالرجل الوحيد الذي لديه سجل حافل في التعامل مع مثل هذه الأزمات قد مات وهو يحاول ذلك.
وازداد حجم الوعي السياسي لدى الجيل الجديد من الشباب العراقي خاصة في الوسط الشيعي الذي كانت تُمارس عليه سياسة تجهيل ممنهجة جعلته يُصدق أسطوانات الأحزاب الدينية الفاسدة وميليشياتها من خطر المندسين والمتطرفين، واللعب على وتر التناقضات الطائفية لتبرير السياسات التي تضر العراق وتصب في مصلحة إيران وتملأ جيوب الفاسدين ومافيات السلطة والدين، وهذا على الأرجح ما دفعهم لاستخدام القوة المفرطة وغير المبررة لإنهائها، لكن انتهاء التظاهرات لفترة لا يعني أن المتظاهرين اقتنعوا بالوعود أو خافوا من الرصاص ما دامت أسبابها باقية دون معالجات حقيقية.
من جهة أخرى أثبتت الأحداث والقمع بالرصاص الحي والتصريحات والمواقف صلة الميليشيات والكثير من الأحزاب والسياسيين وحتى الحكومة العراقية بإيران، من خلال تقديم مصالحها ورواياتها على رواية المتظاهرين السلميين ومعالجة الأسباب التي دفعتهم دفعا إلى النزول للشوارع والمطالبة بحقوق مشروعة وبأدوات سلمية قوبلت برصاص القناصة .
العرب