في عقول الغالبية العظمى يستقر ترامب بمكانته كأحد أسوأ الرؤساء الأمريكيين إن لم يكن أسوأهم على الإطلاق. يخبرنا الجميع تقريبًا بذلك كل يوم عشرات المرات: الصحف، والإذاعات، والبرامج التلفازية، والمنصات الإلكترونية، وبالقطع وعلى رأس القائمة تأتي وسائل التواصل الاجتماعي لتلعب دورها أيضًا. باختصار، كل شيء تقريبًا يكرر نفس القصة القصيرة على أسماعنا، لكن المادة التالية تخبرنا بوجهة نظر أخرى معاكسة، تمامًا.
توضح المادة التالية وجهة نظر يعتقد أنها جزء لا يستهان به من مجتمع الاستخبارات الأميركي، والمؤسسات المحافظة في العاصمة واشنطن وغيرها؛ وهي أن “ترامب” ربما يكون أفضل رئيس في العقدين السابقين على الأقل في إعادة تعريف وهيكلة السياسة الخارجية الأمريكية المترهلة سابقًا، وأنه بما فعله ويفعله منذ توليه الرئاسة يضع الأمور في نصابها، وبحسب المادة فإن أهم ما فعله ترامب وما يزال مستمرًا فيه للآن هو توجيه بوصلة الأميركيين ومؤسساتهم نحو الأهداف الصحيحة: روسيا عدوتنا، والصين هي أخطر خصم نواجهه في تاريخنا.
كما وتلقي المادة بشيء من التفصيل الضوء على الوجه الآخر لدونالد ترامب كراديكالي في تعامله مع موسكو وبكين، وكيف أنه يعيد أوراق القوة الأمريكية للمناطق التي أهملتها بلاده خاصة في فترتي رئاسة أوباما، وتقدمه كرئيس يوجه السياسة الأمريكية في مسار هو الأكثر وضوحًا وصراحة لها منذ عقود، وهي وجهة نظر ربما تبدو غريبة وغير مستساغة في أعين الكثيرين، لكنها تستحق القراءة والتأمل بكل تأكيد.
نص المادة
لا تنفك غالبية التقارير تشير إلى فوضوية تسيّر عمل السياسة الخارجية للولايات المتحدّة، بينما لا تكفُّ عناوين الصحف، والمقالات نفسها، عن إعلان موت الزعامة الأميركية للعالم. ولا يملُّ كُتّاب العواميد الصحفية المشهورون من إرسال البرقيات من خطوط الجبهات الأمامية عن حملة مفترضة بقيادة دونالد ترمب للتخلُّص من النظام الدولي الليبرالي المشيَّد في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والضرر الذي لحق بموقع واشنطن من العالم، كما يقول لنا هؤلاء، غير قابل للإصلاح.
لكن بالابتعاد قليلا عن هذا الهرج اليومي تظهر صورة مختلفة إلى حدٍّ كبير. الحقيقة أن الولايات المتحدة تُهيِّئ نفسها لعهد جديد لم تَعُد هيمنة الولايات المتحدة فيه بلا منافسين، وبات يُعرف بصين صاعدة وروسيا انتقامية تسعيان معا إلى تقويض الزعامة الأميركية وإعادة تشكيل السياسات الدولية لصالح كليهما.
تأخَّر هذا التحوُّل في تركيز واشنطن، ولئن كانت بعض جوانبه في الإجمال قد أخذت شكل رد الفعل في عهد الرئيس باراك أوباما، فقد ذهبت إدارة ترمب إلى ما هو أبعد من ذلك، إدراكا منها بأنّ تَنافُس القوى العظمى يُحتِّم عليها تنفيذ إعادة هيكلة شاملة للسياسة الخارجية الأميركية. وفي ضوء هذا الإدراك صاغت الولايات المتحدة أوراق إستراتيجيتها الرسمية. عندما ينظر المؤرخون المستقبليون إلى إجراءات الولايات المتحدة في بداية القرن الحادي والعشرين، ستكون أهم حكاية هي تلك التي تتناول الطريقة التي أعادت فيها واشنطن صبَّ تركيزها على “تنافُس القوى العظمى”. بعيدًا عن عناوين الصحف العابرة حاليا، إنما هو هذا التحوّل، وما يستتبعه من إعادة ضبط للترتيبات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، ما سيدمغ، إن لم يكن ما سيقود، السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية تحت إدارة الرؤساء من كلا الحزبين حتى وقت طويل.
أثمان الركون
طيلة سنوات، ظل صُنَّاع السياسة والمحللون الأميركيّون يجادلون بشأن ما يعنيه الصعود الصيني والانبعاث الروسي لمصالح الولايات المتحدة. ومنذ ورودها في آخر تقارير إستراتيجيات الأمن القومي والدفاع القومي، ظلّت جملة “تنافُس القوى العظمى” تُتداول بما يكفي لتتحوَّل إلى مصطلح رائج مبتذل. لكن طبيعة التحدي يجب أن تكون واضحة في الوقت الحالي بوصفها حقيقة تجريبية، أي إنَّ الولايات المتحدة تواجه اليوم خصوما أقوى وأطمَح من أي وقت مضى في التاريخ الحديث. حيث من المُتوقَّع للصين أن تصبح أقوى خصم تواجهه الولايات المتحدة في تاريخها، لا سيما في ظل سعيها لفرض الهيمنة على مناطق المحيطين الهادئ والهندي أولا، وفرض تفوُّقها الدولي ثانيا.
الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والرئيس الصيني “شي جين بينغ” (رويترز)
قد لا تتمكّن روسيا من أن تُشكِّل النوع ذاته من المنافسة، لكنها برهنت على قدرتها على استعراض نفوذها بطرق لم يتوقّعها كثيرون بعد انتهاء الحرب الباردة، ونيّتها اليوم إعادة بسط نفوذها في أجزاء من أوروبا الشرقية التي كانت فيما مضى ضمن مجال تأثيرها، أمّا طموحها الأكبر فيتمثَّل في وضع حدٍّ للتفوُّق الغربي على المسرح العالمي، وتكمن إمكانياتها التخريبية جزئيا في قدرتها على إحداث أزمات شاملة تصبّ في صالح الصين على المدى البعيد، من خلال تحرُّكات تهدف إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى.
حتى وقت قريب، لم تكن واشنطن تُفكِّر كثيرا في كيفية ملاقاة هذه التحديات، ومنها الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، حيث ظل جيل كامل من الديمقراطيين والجمهوريين يرفض أن يأخذ على محمل الجدّ إمكانية وجود منافس يكون نِدًّا للولايات المتحدة. في تلك الأيام، كان خصوم القوى العظمى شيئا من التاريخ، وكانت لغة الجيوبوليتيكا نفسها قد انتهت وعفا عليها الزمن. عوض ذلك، كانت القوى العظمى الأخرى شريكة في حل مشكلات “المشاع العالمي”، بدءا من الحد من انتشار الأسلحة النووية مرورا بالإرهاب ووصولا إلى التغيٌّر المناخي.
ثم أفضت تحرُّكات روسيا والصين شيئا فشيئا إلى هذا المشهد الدامي. لم تفعل الصين الشيء الكثير، مع تحوُّلها إلى ركيزة أساسية في التجارة الدولية، لتغيير سياساتها المنحازة -من مشاركة قسرية للتكنولوجيات الأميركية مع الشركات الصينية، وفرض شركات محاصة إلزامية، إلى جانب السطو الصريح على حقوق الملكية الفكرية- بقدر ما فعلت لتعزيزها. واستكملت هذه السياسات بتعزيزات عسكرية على نطاق تاريخي تهدف بوجه خاص إلى بسط هيمنتها على آسيا، وعلى العالم كله في المدى الطويل، وذلك بسعي دؤوب لبسط نطاق تأثيرها من خلال مبادرة الحزام والطريق وما يتعلق بها من مشاريع. في أثناء ذلك، قامت روسيا بإعادة بناء الجيش، وغزو جورجيا، وضم القرم، ودعم تمرّد آخذ بالتقيّح شرق أوكرانيا، واستهلّت حملة مُمنهَجة لنفث الحياة في تأثيرها العسكري والاقتصادي والدبلوماسي في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
دون أن يدفع ذلك أغلب الشخصيات في واشنطن إلى الإقرار بوجود واقع جديد. عوض ذلك، تابع الزعماء الأميركيّون التبشير بـ “عهد التعاون” مع موسكو والتعامل مع بكين بوصفها “شريكا مسؤولا” في النظام الدولي. وتجلّى الاعتقاد الأول في “إعادة ضبط العلاقات” مع روسيا في عام 2009، بعد عدة أشهر فحسب على الغزو الروسي لجورجيا، بينما تجلّى الثاني في شكل جهود متكررة لتعميق العلاقات مع بكين، وبلغ الأمل ببعض الشخصيات إلى حدِّ تأسيس “مجموعة ثنائية” تضم الصين والولايات المتحدة لقيادة المجتمع الدولي. لكن الانتشار العسكري السافر للصين على جزيرات بحر الصين الجنوبي وتوكيد حضورها المتزايد في بقاع أخرى أجبرا واشنطن في نهاية المطاف على إعادة تقييم افتراضاتها حول بكين، كما أن استيلاء روسيا على القرم في عام 2014 وضع حدًّا لما تبقّى مما أُطلِق عليه إعادة ضبط العلاقات. بحلول نهاية فترة إدارة أوباما، كان من الواضح أن الولايات المتحدّة حادت عن المسار.
أما التغييرات السياسية الناتجة فلم تكن ممارسة في بُعد النظر الإستراتيجي الأميركي، بل كانت محض تعديلات فرضها الأمر الواقع فحسب وألحقت الكثير من الضرر بالولايات المتحدّة. فمن خلال تفضيل مظهر الاستقرار على السعي خلف مصالح قومية يسهل تحديدها، تجاهلت الولايات المتحدة السرقة الصينية الفاضحة لحقوق الملكية الفكرية، بل وحتى لأسرار حكومية، إلى جانب استئثار الصين البطيء ببحر الصين الجنوبي. وأملا منها بتطويع الصين كشريك في الحفاظ على الوضع الدولي القائم، والذي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمقته بوضوح، أثنت واشنطن وشجّعت دون إدراك منها الكرملين في مراجعاته الجارية بشأن الأراضي، وأثارت استياء حلفاء بارزين للناتو في أوروبا الشرقية. وكان ثمن هذا باهظا مع تصاعد الشكوك من قِبل حلفاء في شرق آسيا وأوروبا بشأن رغبة واشنطن بالدفاع عن نفسها، ناهيك بالدفاع عنهم هم.
ضبط المسار
كان الوقت قد حان لتسمية الأشياء بأسمائها، وقد فعلت إدارة ترمب، التي اتّسمت بواقعية ووضوح كبيرين عن سابقاتها، ذلك بحذافيره. إن “ترمب”، كما وصفه هنري كيسنجر في مقابلة مع الفاينانشال تايمز عام 2018، “قد يكون واحدا من تلك الشخصيات التي يبدو أنها تأتي بين فترة وأخرى في التاريخ لكي ترسم نهاية عهد وتجرّده من مزاعمه السابقة”. حيث قامت الحكومة الجديدة، من خلال التخلُّص من براديم القطب الواحد، بإعلان إستراتيجية جديدة كبرى. وأوضحت الولايات المتحدة في نسخة عام 2017 من مؤتمر سياسة الأمن القومي، ونسخة عام 2018 من مؤتمر إستراتيجية الدفاع القومي، وما تبعهما من إستراتيجيات إقليمية على مسارح الميحطيْن الهندي والهادئ وقارة أوروبا، أنها باتت في الوقت الحالي ترى العلاقات مع الصين وروسيا من منظور تنافسي، وبأنها ستصبّ تركيزها على الاحتفاظ بأفضليّتها على هذين الغريمين. وكما أوضح كلٌّ من وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي إتش. آر. ماكماستر، فإن عصر القوى العظمى سيكون مصبّ التركيز الجديد لسياسة الأمن القومي الأميركية.
الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” (رويترز)
ليس الهدف من هذا التحوُّل هو المواجهة العمياء مع روسيا والصين، بل الحفاظ على ما حُدِّد كهدف مركزي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها، أي حرية الدول، لا سيما حلفاء الولايات المتحدة، في رسم مساراتها الخاصة دون تدخُّل قوى مهيمنة إقليمية متسلِّطة. وكما يتضح من بيانات الإستراتيجية الأميركية الصادرة عن إدارة ترمب، فإن تلك الرؤية ستُنفَّذ على نطاق عالمي وبرويّة، بحيث تسري على البلدان الآسيوية التي تجد نفسها تحت ضغط اقتصادي وعسكري هائلين من بكين وعلى القلب الموحّد للقارة الأوروبية [الاتحاد الأوروبي] شاملة معه الدول التابعة على أطرافه. في مواجهة القوة المتضخمة للصين والنزعات الانتهازية الثأرية لروسيا، فلن تُحقِّق الولايات المتحدة هذه الرؤية لعالم حر مفتوح ما لم تضمن قوّتها وحيويتها الاقتصادية، وتحتفظ بأفضلية لها في توازنات القوى الإقليمية، وما لم تتمكّن من نقل مصالحها وخطوطها الحمراء بشكل واضح.
في العديد من الجوانب، تكون لوزارة الدفاع الأميركية اليد الطولى في تنفيذ هذه الأجندة، إذ كان الجيش الأميركي قد أوضح في تقرير إستراتيجية الأمن القومي، وتقرير إستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ عام 2019، ومن خلال بياناته العامّة، أن الاهتمام الجوهري في الوقت الحاضر سينصبّ على كيفية الدفاع بشكل مؤثِّر عن أمثال تايوان ودول البلطيق ضد هجوم صيني أو روسي محتمل، بالأخص ضد هجوم يقوم على إستراتيجية فرض الأمر الواقع، التي يمكن أن تتضمّن الاستيلاء على المناطق الضعيفة، والاستحكام بها، وتحويل أي هجوم مضاد إلى عملية يكون من المكلف تصوّرها.
اعلان
استباقا لهكذا نوع من الهجمات، يعمل البنتاغون على تغيير دليله الإرشادي الذي دأب على استخدامه منذ “عملية عاصفة الصحراء”، قبل ثلاثة عقود -الذي كان يقوم على ضخّ قوات عسكريّة ببطء وبشكل ممنهج إلى المناطق الواقعة تحت طائلة التهديد وشن الهجمات المضادّة بعد ضمان الأفضلية العددية التامّة للولايات المتحدّة- إلى قوّة بوسعها صدّ الهجمات الصينية والروسية منذ بدء الاعتداء، حتى إن لم تُحقِّق الأفضلية العددية ذاتها التي كانت للولايات المتحدة قديما في بقاع مثل العراق وصربيا.
وبدأت طلبات الميزانية التي يتقدّم بها البنتاغون تُصمَّم شيئا فشيئا كاستجابة لهذا التحوُّل، حيث استبدلت بالنفاثات المقاتلة قريبة المدى والزوارق البرمائية الضخمة، اللذين يُعرف عنهما ضعف التصدّي للهجمات، القاذفات الجوية والغواصات بعيدة المدى المتخفيّة، إلى جانب السفن والمقاتلات الجوية ذات الأنظمة المستقلة، والصواريخ ذات القواعد الأرضية والمدفعية بعيدة المدى، إلى جانب كميات ضخمة من الذخائر الدقيقة التوجيه القادرة على الاختراق.
حاولت إدارة ترمب أن تُحقِّق باتباع العلاج بالصدمة ما فشلت الإدارات الأميركية السابقة في تحقيقه بالفهلوة والمسايرة
رويترز
وترافق التحوُّل في المضمار الاقتصادي مع المستوى ذاته من الدراماتيكيّة. فحتى سنوات قليلة ماضية، ظلّ المسؤولون الأميركيون يجادلون بأنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتحمّل كلفة زعزعة العلاقات الاقتصادية بين الصين وأميركا، وبدا أن قيمة الاستقرار مع بكين أكبر من أن تُجازف الولايات المتحدة بالمطالبة بإنصاف الشركات الأميركية لأجلها. اليوم، تقوم إدارة ترمب -من خلال تحرُّكات تلقّت الكثير من الدعم الحزبيّ- بفرض التعريفات الجمركية على الواردات الصينية بهدف حث الصين على التخلّي عن ممارساتها التجارية المخربة للأسواق أو في أقلّه، إن فشل الأمر، أن تعكس أسعار الواردات قيمة تلك الممارسات المجحفة بحق الشركات والعاملين الأميركيين. وقد أشار البعض محقا إلى الضرر الذي تُلحقه تلك الغرامات بالطبقة الوسطى والعاملة الأميركية، لكن هذا بالضبط ما تسبّبت به الممارسات التجارية الصينية، والمزيد من انعدام ردّ الفعل يفاقم الأمور سوءا فحسب. إن الضغط الاقتصادي الأميركي، على العكس من ذلك، يساعد في إدخال تعديلات طارئة ضرورية على الأجندة.
نُفِّذ هذا الإجراء في أوروبا أيضا، حيث تردّدت الولايات المتحدّة ردحا طويلا من الزمن في مصارحة الاتحاد الأوروبي بشأن الحواجز الجمركية التي يفرضها على السلع الأميركية والحواجز غير الجمركية حتى مع ارتفاع عجزها التجاري. رفضا منها القبول بالأمر الواقع، حاولت إدارة ترمب أن تُحقِّق باتباع العلاج بالصدمة ما فشلت الإدارات الأميركية السابقة في تحقيقه بالفهلوة والمسايرة. وإن كان الضرر الإجمالي الذي تسبّب به النهج العدواني واضحا، مع تداعياته على العلاقات العابرة للأطلسي والتي يمكن أن تؤدي إلى إضعاف الجبهة المشتركة ضد الصين وروسيا.
اعلان
بموازاة ذلك، تعمل الولايات المتحدة على تقوية الأدوات التجارية المؤثرة التي بحوزتها. فرمّمت إدارة ترمب بالتعاون مع الكونغرس “مؤسسة الاستثمار الخاص في الخارج” لتوفير خيارات بديلة للتمويل الصيني للدول الهشة في آسيا وأوروبا. وهناك قانون “الاستخدام الأمثل للاستثمارات التنموية” (BUILD)، الذي مُرِّر في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018، والهادف إلى تقديم بدائل تمويلية للأصفاد المذهبة الصينية أو ما يُعرف بمبادرة “الحزام والطريق”. ولا يزال هناك المزيد، فقانونُ “ضمان جودة المعلومات والشفافية للأسهم الأميركية المدرجة في البورصات الخارجية” (EQUITABLE Act) الذي تقدّمت به شخصيات قيادية في الكونغرس سيطلب من الشركات الصينية اتباع قواعد المكاشفة المفروضة على الشركات الأميركية التي ترغب بإدراج أسهمها في البورصة الأميركية.
بينما أشار مشرّعون نافذون من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي أنهم سيُبطلون الامتيازات الاقتصادية والتجارية التي مُنحت لهونغ كونغ في الولايات المتحدّة في حال تراجعت بكين عن التزامها بالحكم الذاتي الذي مُنح للمستعمرة البريطانية القديمة. بينما يسعى المسؤولون الأميركيون، بعد طول انتظار، إلى تحذير البلدان الأخرى من مغبة الاستثمار الصيني في مجال الاتصالات والذي يمكن أن يوفر لبكين الوصول إلى، بل وحتى السيطرة على، تكنولوجياتهم الحساسة.
تغيّرت الأولويات في المضمار الدبلوماسي أيضا. فبعد عقود من التركيز غير المتناسب على الشرق الأوسط، قامت إستراتيجية الأمن القومي في عام 2017، وإستراتيجية الدفاع القومي في عام 2018، بإدخال تصحيحات طال أمد انتظارها. وتجادل هذه التصحيحات بأن أكبر تهديدات الولايات المتحدة إنما يأتي من آسيا وأوروبا، وفي ضوء هذا، ينبغي أن ينصبّ الهدف المركزي للولايات المتحدة على الحيلولة دون أن تمتلك الدول العظمى في كلتا القارتين ما يكفي من التأثير لتغيير توازنات القوى الإقليمية لصالحهم. وهذا تحوُّل مُرحَّب به عن كل إستراتيجية وُضعت للأمن القومي منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث عمدت كل نسخة منها إلى التقليل من أهمية تنافُس القوى العظمى بطريقة أو بأخرى.
في الممارسة، تبرز اثنتان من المبادرات الدبلوماسية. الأولى هي جهود إدارة ترمب لإعادة ضبط موازين القوى ضد خصوم أقوياء من خلال عقد تحالفات أكبر وأقوى، وأدّى هذا إلى زيادة بمقدار 34 مليار دولار أميركي في الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال العام الماضي وحده، شمل حتى ألمانيا المترددة. بينما أوضحت الولايات المتحدة في آسيا بأنها ستدافع عن الطائرات والسفن المقاتلة الفلبينية في بحر الصين الجنوبي، وزادت من الدعم الدبلوماسي والعسكري لتايوان، وعملت على تعميق علاقاتها السياسية والعسكرية مع الهند وفيتنام، وهم الأطراف كافة الذين يتشاركون مخاوف واشنطن من التطلُّعات الصينية لفرض هيمنتها في المنطقة.
اعلان
ثانيا، تقوم الولايات المتحدة بزيادة تأثيرها السياسي والاقتصادي في المناطق التي قامت بإهمالها مؤخرا عبر مضاعفة تعاونها ومساعداتها في المناطق التي كانت الصين وروسيا تحصل على موطئ قدم فيها. فرفعت مستوى حضورها الدبلوماسي في أوروبا الوسطى، وغرب البلقان، وشرق المتوسط حيث سمح الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة وراءها للصين وروسيا بالاستفادة من الخلافات السياسية المحلية وتعزيز سياسات سلطوية. في عدة بلدان من هذه المناطق، زادت الولايات المتحدة من دعمها للحكم الرشيد ومحاربة الفساد، وقدّمت مبادرات لمواجهة البروباغندا الروسية، وعملت على توسيع نطاق التبادلات الثقافية والشبابية، وحذَّرت حلفاءها وشركاءها من عواقب طويلة المدى للاصطفاف مع موسكو وبكين.
في آسيا، زادت واشنطن من إمكانياتها التنموية للتنافس مع الصين من خلال إنشاء مبادرة “مؤسسة التمويل التنموي الدولية” وتوفير سبل تمويلية جديدة من خلال قانون “BUILD”. كما تعمل الولايات المتحدة على محاربة الفساد* وتعزيز الحكم الرشيد من خلال “مبادرة الشفافية في المحيط الهادئ والمحيط الهندي”، وتتحدّى الصين علنا في تعاملها مع الأقليات التبتية والإيغوريّة. كما أنها تولي اهتماما أكبر لدول المحيط الهادئ، مثل ميكرونيسيا وبابوا غينيا الجديدة وجزر سليمان، التي تتعرّض للضغوط الصينية بشكل خاص.
هذا لا يعني غض الطرف عن القلق اليومي في واشنطن أو الدفاع عن كل سياسة تأتي بها الإدارة. فالانخراط في حرب مع إيران، وإبقاء حضور عسكري ضخم في أفغانستان، أو حتى التدخُّل في فنزويلا، كما يودّ البعض من الإدارة أن تفعل، سيأتي بمردودات سلبية على نجاح الولايات المتحدة في عهد تنافُس القوى العظمى. كما أن الولايات المتحدة قد تجازف بخسارة حلفائها في حال واصلت الدفع بهم بعيدا بما أنهم الأفضلية الوحيدة التي تمتلكها على خصومها. إلى جانب أن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن التنافس على النحو المأمول، بل على العكس من ذلك، فالتقدُّم إلى هذا الحد لا يزال مُتأخِّرا ومُتعثِّرا. لكن البلاد برغم ذلك باتت تمتلك هيكلا تُعيد من خلاله توجيه سياستها الخارجية، كما أنه يتمتع بتأييد حزبي، ومن المُرجَّح أن يظل قائما، وإن كان في مبادئه الجوهرية فقط، لدى الإدارات المستقبلية.
المهم في الوقت الحاضر
على هذه الأرضية تقف واشنطن في الوقت الحالي. الولايات المتحدة أعربت عن عزمها وقدرتها على تبنّي نهج أكثر حِدّة في التعامل مع خصومها، عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا. في الداخل، حظيَ تصحيح المسار بتأييد حزبي أكبر مما يلقاه هذا الجهد في العادة من تقدير، حيث حظي النهج الحازم الذي اتبعته الإدارة الأميركية مع الصين، بالتحديد، بدعم معظم أعضاء الكونغرس، الديمقراطيين والجمهوريين على حدٍّ سواء. وتشكَّل إجماع حزبيّ، بعد سنوات من التذبذب، على خطورة التهديد الذي يُمثِّله الكرملين وضرورة التصدي له. أما في الخارج، فقد كانت رسالة واشنطن الجديدة تؤدّي إلى تعديلات مهمة، حيث زاد الحلفاء الأوروبيّون من إنفاقهم الدفاعي وحافظوا على جبهة متحدة في مواجهة روسيا بالعقوبات، وتحسّنت العلاقات الأميركية الدفاعية بشكل ملحوظ مع الهند واليابان وبولندا، كما أن الشركات متعددة الجنسيات تعمل على تنويع سلاسل التزويد بالابتعاد عن الصين، وهذه مجرد أمثلة قليلة فحسب.
اعلان
لكن هذه مجرد بداية لجهود من المُرجَّح أن تمتد لعقود قادمة. ذلك أن الصين لا تُبدي أي علامات على تخليها عن السعي لبسط نفوذها في آسيا. بينما لا تبدو موسكو أكثر رغبة في إصلاح علاقاتها مع الغرب، فهذا الجهد مُنصبٌّ على علاقتها ببكين. لا بد للولايات المتحدة والحال هذه أن تتحضّر لجهد جيليّ، لكي تتمكّن من عرقلة رغبات الصين بالصعود في آسيا وما بعدها، ويجب على الولايات المتحدة الإبقاء على توازنات قوى إقليمية لصالحها وأن تُسابق الوقت. إن بناء وحفظ التحالفات الضرورية في آسيا وأوروبا ينبغي أن يكون في صميم إستراتيجيتها. باختصار، إن ذلك سيتطلّب ما يتخطّى الطلبات المهذبة التطمينيّة، لأن الولايات المتحدة باتت بالكاد تستطيع ادّعاء القدرة على تحييد روسيا والصين بمفردها. وسيكون عليها المطالبة بالمزيد من حلفائها وشركائها، بإلحاح وضغط حقيقي إن لزم الأمر، مع أنّ هذه الضغوط ستضع جهود واشنطن في الحصول على مساهمات ملموسة أكبر من حلفائها في مهب الريح إن أدّت إلى صدع سياسي يقوّض بنية التحالفات من الداخل.
التفكير بطريقة لحثّ حلفاء الولايات المتحدة على تقديم المزيد بزمن يبلغ فيه الدَّيْن العام لها 23 تريليون دولار أميركي، سيكون أحد أكبر التحديات بالسنوات القادمة
وكالات
برغم ذلك، فإن الحاجة إلى دعم ملموس أكبر ضرورية ومُلِحّة، حيث ما زال هيكل التحالفات الأميركية يعكس ترتيبات ما بعد الحرب الباردة خلال عصر الهيمنة الأحادية، عندما كانت الولايات المتحدة تحتاج من العون إلى الشيء القليل لتضمن أمن شركائها. وباستثناءات ملحوظة، كما في حالة بولندا وكوريا الجنوبية، فالتسليح الذي يتمتع به حلفاء واشنطن ضعيف جدا، هذا إن كان لديهم سلاح في المقام الأول، لا سيما إذا ما قورن بالصين وروسيا. ستلعب اليابان دورا مركزيا في أي وضعية دفاعية ضد الصين، لكن إنفاقها الدفاعي هو ذاته منذ عام 1996، في حين رفعت الصين إنفاقها العسكري إلى حدٍّ هائل. أما تايوان -حيث تتصاعد تهديدات جيش التحرير الشعبي الصيني أكثر من أي رقعة أخرى- فبالكاد زادت من إنفاقها الدفاعي خلال السنوات العشرين الأخيرة.
وفي أوروبا، يمكن تحييد الشيء الكثير من التهديد الروسي لدول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف الناتو إن قدّمت ألمانيا فصيلا عسكريا واحدا فقط من خمسة عشر قسما احتياطيا تباهت بهم عام 1988. اليوم، بالكاد تستطيع ألمانيا استدعاء فصيل واحد منها. إنّ التفكير في طريقة لحثّ حلفاء الولايات المتحدة على تقديم المزيد في زمن يبلغ فيه الدَّيْن العام للولايات المتحدة 23 تريليون دولار أميركي إلى جانب انعدام قدرتها على القيام بكل شيء بنفسها -والقيام بهذا بدون فرض الكثير من القيود على هؤلاء الحلفاء- سيكون أحد أكبر التحديات في السنوات القادمة.
المسألة الأخرى هي الشكل الدقيق الذي ستأخذه تحالفات الولايات المتحدة، بالأخص في آسيا. ليس على الولايات المتحدة استنساخ الناتو في المنطقة، فالفكرة هي تشكيل تحالف يكبح تطلُّعات الصين في الهيمنة الإقليمية. تحالف من هذا النوع يمكن أن يتألّف من مزيج من التحالفات الرسمية مع أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية مثلا، وتحالفات ضمنية مع تايوان، إلى جانب تعميق الشراكات التي لا تتضمّن طلب ضمانات أمنية رسمية كالهند وفيتنام. ثم إن علاقات الولايات المتحدة مع نيودلهي وطوكيو سترعى هذا التحالف، لكنّ الصمود في وجه الصين القوية سيتطلّب من الولايات المتحدة لعب دور فعّال. في هذا الصدد، ستكون الدول الضعيفة والصغيرة جنوب شرق آسيا نقطة تتركّز فيها الإستراتيجية الأميركية في التنافس مع الصين.
على المسؤولين الأميركيين إدراكُ أن الخصومة مع حلفاء ديمقراطيين لكي تعود التجارة بفوائد مشتركة ليست مسألة مُلِحّة بقدر ما هي مُلِحّة الحرب التجارية ضد الصين
الجزيرة
في أوروبا، تمتلك الولايات المتحدة سلفا إطارا ممتازا للعمل من خلاله، عبر الناتو، الذي تحتاج إليه للاحتياط من التحدي الروسي والصيني ومواكبة حجمه. منذ أن بدأ الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية من قِبل روسيا، عمل هذا الحلف على تحسين بناه القيادية وبدأ في تكييف أوضاع قوّاته، التي تأبى الخروج من قوقعة عام 1989، ما يعني أن عليها إجراء المزيد من التغييرات لردع المحاولات الروسية المستقبلية لخلق أمر واقع على طول الحدود. ستحتاج الولايات المتحدة، بوجه خاص، إلى قوات يمكنها الانتشار بالسرعة الكافية لصدّ أي محاولات روسية لانتزاع الأرض من البداية. وبالنظر إلى كمية الموارد الأميركية التي ستكون مربوطة بآسيا، فلا عجب أن يحتاج الناتو إلى تكثير قواته العسكرية بحيث تندمج مع القوات الأميركية في صدّ اعتداء روسي واضح وصريح.
فيما يتعلّق بضخ الدماء في المقاومة الأوروبية ضد الممارسات التجارية الاعتدائية للصين والشراكات التي تفتقد إلى حُسن المشورة في مشاريع البنية التحتية، لاقت جهود واشنطن نجاحا أقل، أدّت إليه جزئيا الخلافات التجارية مع أوروبا. لكن من الصعب تضخيم أهمية الوحدة عبر-الأطلسية في هذا الموضوع، فليست الخلافات بين الطرفين عصية على الحل. لكن ينبغي لصُنّاع السياسة الأوروبيين تمييز العواقب الجيوبوليتيكية طويلة الأمد للتعريفات الجمركيّة غير المتماثلة والحواجز غير الجمركية، والتوقُّف عن تطبيق القواعد التنظيمية للاتحاد الأوروبي بطرق تستهدف كبرى الشركات الأميركية وتغض الطرف عن الشركات الصينية والروسية المملوكة للدولة. الفشل في هذا الأمر سيقوّض إمكانيات أوروبا الهشّة أمام الضغط الصيني والروسي. لكن على المسؤولين الأميركيين إدراكُ أن الخصومة مع حلفاء ديمقراطيين لكي تعود التجارة بفوائد مشتركة ليست مسألة مُلِحّة بقدر ما هي مُلِحّة الحرب التجارية ضد الصين. لا يمكن للولايات المتحدة أن تُعيد محكمة كل علاقة تجارية غير متكافئة دفعة واحدة، إن الحفاظ على جبهة موحّدة ضد الصين ينبغي أن يكون الاهتمام الأبرز لواشنطن. يسري الأمر ذاته على علاقة الولايات المتحدة بالهند واليابان.
ليس الهدف المأمول من هذه الإستراتيجية فك الروابط الاقتصادية الصينية الأميركية كليا ولا إرغام حلفاء الولايات المتحدة وشركائها على اختيار طرف دون آخر (مع أن بناء جبهة تجارية غربية موحّدة يتضمّن تحالفات من آسيا وأوروبا ينبغي أن يظل هدفا بعيد المدى للولايات المتحدة). عوض ذلك، من الأفضل حماية حقوق الملكية الفكرية والتكنولوجيات الحساسة، وبالتبعية خفض مستوى النفوذ الاقتصادي الصيني في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. كما أن وخز الضغط الاقتصادي الصيني بدأ يصل إلى أماكن مثل كندا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان ودول في وسط وجنوب شرق أوروبا من بين دول أخرى. إن الاندماج الموسّع مع الاقتصاد الصيني أمر ضروري للدول كافة، لكن عليها أن تحدّ من قدرة بكين على تحويل هذا الانكشاف إلى نفوذ مُحكَم لا في سبيل إسداء خدمة لواشنطن، بل صونا لسيادة دولهم.
إضافة إلى ذلك، ينبغي لواشنطن أن تؤسِّس لمسافة بين بكين وموسكو. لطالما كان من أولويات إدارة الدولة الأميركية ألّا يكون من الحكمة السماح لقوّتين أوراسيتين ضخمتين بالاصطفاف معا، لكن هذا هو عينه الحاصل اليوم، إذ يبدو أن روسيا، في ظل اغترابها العميق عن الغرب، تميل إلى الصين وإن كلّفها الأمر استقلاليّتها. فقد رحّبت موسكو مؤخرا بعملاق الاتصالات الصينية “هواوي” إلى روسيا، على سبيل المثال، هذا إلى جانب تعميق العلاقات العسكرية بين البلدين. في الوقت الحالي، من غير المُرجَّح أن تنجح محاولات إغواء روسيا للابتعاد عن الصين، وسيتعيّن على الولايات المتحدّة أن تلجأ للردع وتنتظر المزيد من الفرص المواتية. في أثناء ذلك، ينبغي للولايات المتحدة تقوية ردع الناتو ضد روسيا في البلطيق وأوروبا الوسطى بالتوازي مع استخدام العقوبات ضد روسيا على عدوانها في أماكن مثل سوريا وأوكرانيا. إن إمكانية تحقيق انفراجة تقوم على المصالح المشتركة مع روسيا ستتحقّق في حال استنتجت موسكو أن تجشم عناء استعادة تأثير الحقبة السوفيتية بالقوة سيكون أمرا مكلفا.
لكن حتى بمساعدة الحلفاء، لن تكون الولايات المتحدة قادرة على تحقيق نوع الهيمنة العسكرية الذي كان لها على خصومها في عصر الهيمنة الأحادية على الصين وروسيا. إن محاولة القيام بذلك سيكون إسرافا كما أنه سيأتي بنتائج عكسية. إنّ ما تحتاج إليه واشنطن حقا هو القدرة على مقاومة الاعتداءات الناجحة لخصومها على حلفائها وشركائها، وهذا يعني توفير ما يكفي من الدفاع لإبقاء هؤلاء الحلفاء ملتحمين. الأهم من ذلك هو أنه يعني ضمان عدم إمكانية تعرُّضهم للاحتلال، وبالأخص فرض أمر واقع، أو خنقهم بالحصار أو الضغط، وهي إستراتيجية يمكن تسميتها “بالدفاع الحرماني”. حرمان الصين وروسيا من الاستيلاء على أراضي تايوان أو دول البلطيق، الذي بات ممكنا في عالم الذخائر دقيقة التوجيه والقدرات الهائلة في جمع المعلومات، واستهداف الشخصيات، ومعالجة البيانات. إن القيام بهذا الأمر سيتطلّب قوات بوسعها شنّ الهجمات والمساعدة في حرمان الصين من الاستيلاء على تايوان أو مقدرة روسيا على الاستئثار بأراضي البلطيق.
اعلان
إن تحقيق هذا سيعني أن تُوضَع الالتزامات الأخرى على الرفّ أو أن يُضحَّى بها. في عالم الهيمنة الأحادية، لربما كانت واشنطن قادرة على أن تكون كل الأشياء في كل الأماكن، كعملاق يعتلي سدة العالم، لكن ذلك صعب في عصر تنافس القوى العظمى. وبدلا من ذلك، سيكون على واشنطن أن تُعيد صبّ جهودها على المناطق الثانوية والمحيطية. أما في حالة الحضور العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، فعوض محاولة إحلال الاستقرار في المنطقة والحفاظ على “الأعراف الدولية” هناك، ينبغي أن تصبّ واشنطن تركيزا أكبر على طرق فعّالة من حيث التكلفة في مواجهة الإرهاب العابر للحدود. كذلك لا يمكن أن يتمثّل هدف الولايات المتحدّة في تغيير حكومات دول مثل إيران، ذلك أن حرمانها من بسط هيمنتها على الخليج سيتطلّب جهدا وموارد أقلّ. الخفض التدريجي لانتشار وأنشطة القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق وسوريا -بمساعدة وكلاء محليين واعتماد أكبر على القوات الخارجية- سيُفسح المزيد من المجال لهذه القدرات.
سيستمر ترمب في تحطيم الصين على تويتر وفي أي مكان يُثير غبطة طرف واستياء آخر، وسيستمر العديدون بالإحساس بتداعيات الأزمات الحالية في الشرق الأوسط. لكن في أثناء ذلك، فإن الولايات المتحدّة تدخل ما يُرجَّح أن يكون صراعا طويل الأمد حول مَن ستكون له الكلمة العليا في طريقة تسيير العالم في القرن الحادي والعشرين. العصر القادم سيكون أقل تسامحا مع الغطرسة وانعدام الجاهزية عما كانت عليه الظروف حتى الماضي القريب. والاعتراف بهذا هو ما أفضى إلى إعادة تقييم متوقّعة للأولويات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، بحيث بات يتحتم على الإدارات الأميركية القادمة أن تواصل المُضيّ بها قُدما.
إنّ القيام بهذا سيتطلّب تضحيات ومبادلات تجارية مؤلمة. كما أنه سيعني التخلي عن الأحلام القديمة بهيمنة عسكرية مفتوحة ومنصات تسلُّح غير ملائمة، إلى جانب المطالبة بإسهامات ملموسة أكبر من حلفاء الولايات المتحدة الأميركية. ذلك سيعني أيضا تقوية الجانب التكنولوجي للولايات المتحدة في قطاعات ذات أهمية إستراتيجية دون تقويض الالتزامات الأميركية بالتجارة الدولية الحرة، مع التركيز بشكل أكبر صرامة على آسيا وأوروبا على حساب المناطق الأخرى. إن العودة إلى القناعة الخاملة التي رافقت السنوات الماضية، عندما افترضت الولايات المتحدة أحسن النيّات لدى خصومها، وأبقت على سياسات غالبا ما أضعفت أمنها القومي، وحجبت مثالب خطيرة لخصومها باسم الوحدة السياسية المصطنعة، ليست خيارا قائما بعد الآن. كذلك هو الانسحاب أملا بالتنصُّل من التنافس الجيوسياسي دفعة واحدة. كما كان الحال عليه في الماضي، يمكن للولايات المتحدة أن تضمن أمنها ورخاءها كمجتمع فقط في حال ضمنت موازين القوى لصالحها في المناطق الأهم، وعملت على الإعداد المنهجي لمجتمعها واقتصادها وحلفائها لتنافُسٍ طويل الأمد ضد خصوم لديهم القوة والقدرة والتصميم على تهديد هذه الغاية.
الجزيرة