وصفت الناصرية (مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق)، منذ انطلاق الاحتجاجات مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأكثر منطقة تعرضت للعنف بعد بغداد.
واختلفت طبيعة الحراك والاحتجاج في محافظة ذي قار عن بقية المناطق، حيث شهدت حرق مقرات للأحزاب وسقوط قتلى وجرحى على نحو متزايد، في الوقت الذي لم تشهده أي محافظة أخرى، وازداد الأمر ضراوة بعد أيام قليلة من الهدوء، ليتكرر السيناريو من جديد بحرق مقرات أحزاب أخرى، إضافة إلى أبنية حكومية.
تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، حينما بدأت أعداد كبيرة تهاجم بيوت مسؤولين، وتحرق منازل قيادات حزبية، ومع كل حرائق يشعلها المتظاهرون يسقط العديد من القتلى والجرحى، ومع كل مواجهة تحرق أبنية وسيارات، بما فيها العسكرية.
وصارت الناصرية ملهمة للمدن الأخرى في التصعيد، حيث أعلنت في 13 من الشهر الجاري “مهلة وطن” لمدة أسبوع، التي تفاعل معها عدد كبير من العراقيين، كخطوة تصعيدية مفاجئة، وتضمنت قطع الطرق الرئيسية في حال عدم تنفيذ السلطات المطالب المتعلقة باختيار رئيس حكومة غير جدلي وانتخابات مبكرة، والمصادقة على قانون الانتخابات.
وبانتهاء المهلة، جرت مواجهات عنيفة على الطريق السريع الذي يربط بين البصرة وبغداد، سقط إثرها ثلاثة قتلى وإصابة 28 متظاهرا، لتعود بعد يوم واحد لتعلن الناصرية من جديد مليونية سيرا على الأقدام باتجاه المنطقة الخضراء في بغداد ومحاصرتها في منتصف الشهر القادم.
وبخطوات الناصرية التصعيدية، عادت الاحتجاجات العراقية من جديد بوتيرة أعلى، وتحولت الناصرية إلى بوصلة للمحتجين في العراق، وتخشاها السلطات.
لماذا الناصرية؟
ترتكز الناصرية على أشياء تاريخية تتعلق بالمدينة والأحداث التي مرت بها، لكن الشيء القريب هو أن أغلب فئات الحشد الشعبي من هذه المدينة، التي تمثل النسبة الأعلى في البطالة والكثافة البشرية، ودخلت في تجارب عشائرية لديها قدرة على المواجهة، كما يقول الناشط في المظاهرات الأكاديمي حازم هاشم للجزيرة نت.
النجاح الذي تحقق منذ انطلاق الاحتجاجات -كما يتحدث هاشم- هي أنها أول مدينة كسرت هيبة الأحزاب والمليشيات وحرقت مقراتها، والذين تأخروا بهذا الموضوع حاولوا تقليدها وتحويلها لأيقونة بقضية الحرق، كما أنها أكثر تنظيما وجرأة في ظهور شخصيات صريحة وواضحة، وهذه مسألة مهمة لم تتوفر في محافظات أخرى.
ويتابع هاشم أن المدينة مترامية الأطراف، والمظاهرات ليست في المركز فحسب مثل بقية المحافظات، بل توزع جهدها على الأقضية والنواحي، وهي عملية تخفيف ضغط، وبالتالي استطاعت بهذا العمل التنظيمي إرباك القيادات الأمنية، كما أن الرد العنيف الذي تعاملت به السلطة معها وتقديم الكثير من الضحايا خلف حجما كبيرا من التعاطف معها.
إرث ثوري
ترتبط ذكرى الناصرية بمساحة تاريخية تمتد قرونا، وقبل أن تسمى بهذا الاسم ثمة إرث وصفة ثورية لدى أبنائها، وهذه الصفة تعززت وتجذرت، حين الحديث عن تاريخها والعودة للوراء، ولعل ما يحصل في المظاهرات ربما قد يكون دليلا على أن الناصرية لن تهدأ، كما يقول الكاتب والناشط حيدر اليعقوبي للجزيرة نت.
وأصبحت مؤخرا -كما يؤكد اليعقوبي- بوصلة المحتجين في جميع العراق، فقد استلهم متظاهرو ساحة التحرير وبقية المحافظات منها الدروس والعبر في التكافل الاجتماعي والإصرار على نيل الحقوق، وأصبحت عصية على الحكومات وسلطاتها، وكلما يحصل مشهد للقمع ضد المحتجين ترتفع الأعداد.
الأمر لا يقتصر على الكبار -كما يقول اليعقوبي- فالصغار يشتركون كذلك، ولعل الموقف الأبرز في هذه الثورية هي الفتاة الصغيرة التي تبرعت بأقراطها لشراء خيمة جديدة وأغطية للمعتصمين، الذين احترقت خيامهم بهجوم مسلح قبل عدة أيام.
ويرى الناشط والكاتب علاء هاشم أن الناصرية على طول الخط هي مدينة معارضة وفي مواجهة مع السلطة في كل الأنظمة التي حكمت البلاد، حتى نظام بعد 2003 الذي تقوده أحزاب وشخصيات تنتمي إلى الناصرية والجنوب بصورة عامة.
وقال للجزيرة نت إن ذلك لم يكن مقنعا لأبناء الناصرية، ولم يقف حائلا دون رفضهم، لأنهم تربوا على الرفض، الناصرية مدينة تعشق التمرد على السلطة، وتعشق الرفض، فهي ليست شجرة خبيثة، بل شجرة عناد ورفض.
فلسفة الدم
أعتقد أن هناك أهم ثلاثة أسباب لهذه المدينة -كما يقول الشاعر علي الغريفي في حديثه للجزيرة نت- هي جينات القيادة المتجذرة في أبنائها، وقدرتهم على التصدي وتحمل المسؤولية؛ وبالتالي كان تصدر أهل الناصرية للمشهد يأتي بفعل المبادرات، كونها أخذت السبق في هذا المجال.
ويتابع الغريفي أن السبب الثاني هو فلسفة الدم، وأعتقد أن ردة فعل السلطة تجاهها، وما حدث من قتل أكثر من 120 محتجا كان سببا أساسيا في تصدرها المشهد بعد أن أعطى أبناؤها رسالة في الثبات وشدة البأس وصدق الوعد.
والسبب الثالث هو الثقة في هذه المدينة من قبل عامة العراقيين بأن الناصرية تمتلك كل هذا الكم من التاريخ والصرح الحضاري، وقادرة على أن تقيم مدينة حضارية ومدنا أخرى فوق الخراب والركام، فهي مدينة عمّدت بماء الثورات والفرات.
المصدر : الجزيرة