عندما وافق مجلس النواب العراقي في جلسته التي عقدها في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2019 على استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، انطلق المراقبون في قراءة السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد حكومة عادل عبد المهدي، لكن أغلب القراءات وقعت في مطب يمكن تسميته بـ»مشكلة دستورية الحل»، أي صعوبة إيجاد مخارج دستورية لحل الأزمة، كما تم غض النظر عن خصوصية التغيير المقبل عبر انتفاضة شعبية.
أحزاب العملية السياسية أخذت بالتحرك، سواء في البرلمان، أو في اجتماعات الغرف المغلقة، في محاولات محمومة لترشيح رئيس حكومة جديد، تستطيع أن تسيطر عليه، وأن تفرض على حكومته سياقات عمل مثقلة بإرث من ملفات الفساد، والسعي لترشيح بديل مستقل لعبد المهدي، يرضي الشارع، وفي الوقت نفسه، يكون مجرد ستارة تحكم من ورائها أحزاب السلطة قبضتها على آليات التغيير المقبلة.
وقفة الانتفاضة كانت صارمة، والرفض كان واضحا، واللعب على الحبال الذي مارسته الطبقة السياسية كان مكشوفا، وفي كثير من الاحيان كان مضحكا، لذا توالى طرح أسماء المرشحين لرئاسة الوزراء، وتوالى رفض ساحات الاحتجاج لهؤلاء المرشحين، عبر آلية رمزية تمثلت بوضع علامة (X) على صورة كبيرة يتم تعليقها في ساحات الاحتجاج، ويكتب تحتها عبارة (مرفوض من قبل الشعب)، خيارات كتلة «البناء» القريبة من طهران، التي قدمت نفسها بوصفها الكتلة الأكبر في البرلمان كانت متهافتة، والأسماء التي طرحت كانت لا تنطبق عليها الشروط التي حددها المنتفضون، والتي يجب توفرها في رئيس الحكومة الانتقالية.
وقفة الانتفاضة كانت صارمة، والرفض كان واضحا، واللعب على الحبال الذي مارسته الطبقة السياسية كان مكشوفا
وهنا لابد من التوقف عند نقطة مفصلية هي، أن هنالك التباسا منطقيا في هذه الدائرة المفرغة، التي تدور فيها الطبقة السياسية والانتفاضة، فالحكومة الانتقالية، أو المؤقتة، التي ستتكفل بإدارة المرحلة الانتقالية عبر حيازتها سلطات تنفيذية وتشريعية، لأن البرلمان الحالي يجب أن يحل نفسه بعد تشكيل الحكومة الانتقالية المكلفة بإنجاز أعمالها ضمن مدة زمنية قصيرة، وقد أشار بعض المنتفضين إلى إنها لن تزيد عن ستة أشهر، أو في أقصى الأحوال سنة واحدة، يتم خلالها، بناء على إصدار إعلان دستوري، تعديل قانون الانتخابات، تعديل قانون الأحزاب، آلية جديدة لتشكيل مفوضية عليا للانتخابات، تتصف بالنزاهة والاستقلال وتعمل تحت إشراف قضائي، والإعداد والإشراف على انتخابات مبكرة، يتم عبرها انتخاب برلمان جديد، يتولى عملية كتابة دستور جديد للبلاد.
ويضيف بعض المتحمسين لمسؤوليات الحكومة الانتقالية، طلب تقديم قتلة المتظاهرين للقضاء، إلا أن بعض الأصوات الواعية تطالب بتأجيل هذا الأمر لحين إصلاح المنظومة القضائية، وحينها تتكفل بالأمر حكومة دائمية وليست حكومة انتقالية منعا لعمليات الثأر والانتقام، التي قد تفرزها سرعة الأحكام في المرحلة الانتقالية، فإذا وضعنا نصب أعيننا النقاط أعلاه، سنكتشف وبسهولة استحالة تطابق متطلبات ساحات الاحتجاج، مع ما تقدمه الطبقة السياسية، لأن ذلك يقع ضمن ما يعرف بـ(صراع الأضداد) وفقا للقاموس الماركسي، إذ لا يمكن أن تتخلى أحزاب السلطة الفاسدة عن مكتسباتها برحابة صدر، وأن تقبل بشخصية مستقلة ونزيهة، ستجردها من نفوذها وسطوتها وأموالها، بل تقدم الفاسدين والقتلة من هذه الاحزاب إلى القضاء، لينالوا جزاءهم. من جانب آخر، لابد من الإشارة إلى أن الحكومة المؤقتة، أو الانتقالية هي خطوة «لا دستورية»، لم يشر لها الدستور الحالي في أي فقرة من فقراته، ولغرض إنجاز مهماتها، لابد من أن تحظى بصلاحيات تنفيذية وتشريعية «لا دستورية»، لذلك لا يمكن أن تتشكل الحكومة المنتظرة، وفق السياقات الدستورية الروتينية، عبر ترشيح الكتلة الأكبر في البرلمان، أو حتى باتفاق الكتل، كما حدث سابقا في اختيار عادل عبد المهدي بصفته مرشحا توافقيا.
إذا انتبهنا إلى ما يدور في حديث الطبقة السياسية، سنجد الكلام يدور عن رئيس حكومة قادم، يتمم عمر حكومة عبد المهدي، أي حكومة تستمر بالعمل لحين موعد انتخابات 2022، أي أنهم يسعون لإكمال مسيرتهم السابقة قبل الانتفاضة بشكل روتيني، مع إجراء بعض الإصلاحات التي يتم التوافق عليها تحت قبة البرلمان، أو في اجتماعات الكتل السياسية في الغرف المغلقة، ولا يمكنهم بالطبع، وفي أي حال من الأحوال الحديث عن حكومة انتقالية يتنازلون لها عن كل صلاحياتهم، لأن ذلك يعني انتحارهم سياسيا، فإذا اشتدت الأزمة، ودخلت تصريحات المرجعية الدينية العليا في النجف على الخط، مطالبة بالإسراع في إنجاز ما يطلبه المحتجون من مطالب عادلة، نجد الطبقة السياسية وقد عادت للدوران في الحلقة المفرغة ذاتها، المتمثلة بتقديم مرشح ليتم رفضه وهكذا، هذا هو ديدن الحال منذ شهرين.
البعض بات يلقي التهمة على المنتفضين، ويطالبهم باختيار قيادات واضحة، وتكليف هذه القيادات بالجلوس والتفاوض مع الحكومة والطبقة السياسية، والتفاهم معها على تطبيق مطالب محددة، وهذا الأمر فيه الكثير من اللبس أيضا، فنحن إزاء حكومة قتلت حتى الآن، باعتراف تقاريرها الرسمية، أكثر من 700 من المحتجين، وجرحت وعوقت أكثر من عشرين ألف شخص، إذن، ما هي الضمانات التي تقدمها الحكومة للجلوس مع معارضة حقيقية والتفاهم معها؟
كيف تضمن الانتفاضة عدم اغتيال أو اعتقال أو حتى شراء ذمة من يتصدى من شباب الانتفاضة، ويبرز كشخصية يمكنها أن تفاوض حكومة المنطقة الخضراء؟ نحن نشاهد عمليات الخطف والتصفية والاغتيال الفعلي والمعنوي، بإطلاق الإشاعات وحملات الذباب الالكتروني، الذي تشنه جهات وميليشيات مقربة من الحكومة تجاه الناشطين كل يوم، لذا فإن كل ذلك يعيق عملية التفاهم بين طرفي الأزمة في العراق، لكن هل يعني ذلك أن لا مخرج لهذه الأزمة؟
كتب بعض الباحثين حلولا، أو مشاريع حلول للأزمة العراقية، استنادا إلى تجارب الحراكات الجماهيرية التي تمت في المنطقة مثل، الاتفاق السوداني بين المحتجين والمجلس العسكري، الذي قاد لتشكيل حكومة انتقالية مناصفة بين الطرفين، أو الاتفاق التونسي الذي أفرز «الترويكا التونسية» وحكومتها الانتقالية، وحتى حكومة الرئيس عدلي منصور الانتقالية في مصر، التي أعقبت إطاحة حكومة محمد مرسي، إذ تم تعديل الدستور، وحل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة أوصلت عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم. في كل تلك التجارب لم يقف المحتجون جامدين متمسكين بمطالبهم ذات السقف المرتفع، بل تم الاتفاق مع قطاع، أو شريحة من النظام القديم، الذي يطالب المحتجون بإزاحته، لكن عبر خطوات مدروسة من التنازل، يتم عبرها تجاوز أزمة «لا دستورية» التحولات السياسية، التي تصاحب ولادة الحكومة الانتقالية، والتي تتم بالتشارك بين قوى الانتفاضة وأحد قطاعات الحكومة الحالية.
وكان عدد من الباحثين يتوقعون أن تلعب كتلة «سائرون» وقيادتها الصدرية دورا في تجسير الهوة بين ساحات الاحتجاج والحكومة الحالية، نتيجة امتلاكها كتلة برلمانية كبيرة، وحصة مؤثرة في وزارات السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى ثقلها في الشارع، وفي ساحات الاحتجاج، وقد توقعوا أن تولد من هذه المواشجة حكومة انتقالية تعبر بالبلد إلى بر الأمان. لكن التنافس الحزبي والميليشاوي، وتدخل النفوذ الإيراني، نسف التوقعات وحولها إلى تنافس بين قوى متصارعة، وأشاع احتمالية اقتتال الفصائل الشيعية مع بعضها، إذا حاول الصدريون الاستئثار بالمرحلة الانتقالية لوحدهم. كل هذه المعطيات مقرونة بتواجد السيد مقتدى الصدر في إيران، واحتمالية تعرضه للضغط، جعل قرارات الرجل تتسم بالعشوائية، وعدم وضوح المعيار السياسي المحرك والدافع لها، إذ كان تارة يدعم حركة الاحتجاج، وتارة يهاجم المتظاهرين ليعود ويقف معهم مرة أخرى.
والآن وانتفاضة تشرين تدخل شهرها الرابع، بات الكل يتمنى أن تعمل تنسيقيات الانتفاضة في بغداد والمحافظات، على تفعيل حلول عملية للخروج من أزمة تشكيل الحكومة الانتقالية التي ستمثل ولادة النصر الحقيقي للثورة العراقية، لتسير بخطواتها المرسومة للإصلاح.
صادق الطائي
القدس العربي