وعود رئيس الوزراء العراقي المكلّف بإنهاء المحاصصة السياسية ومحاربة الفساد وضبط السلاح بيد الدولة وتبرُّئه من الطبقة السياسية الفاسدة التي كانت أصلا وراء اختياره للمنصب، وتقرّبه من المحتجّين بادّعاء أنّه مرشّحهم، تعني للشارع المنتفض أنّ الرجل شرع منذ البداية في ترويج الأوهام على طريقة كل من سبقوه إلى رئاسة الحكومة، وأنّه مرفوض مثل سلفه المستقيل عادل عبدالمهدي.
بغداد – رفع رئيس الوزراء العراقي المكلّف محمد توفيق علاوي من سقف وعوده، بشكل يتجاوز بكثير قدرته على تنفيذها، وذلك عندما تعهّد بمحاربة الفساد، وبإنهاء المحاصصة التي تمثّل جوهر النظام السياسي الذي سيعمل ضمنه ويكون جزءا منه، وبحصر السلاح بيد الدولة، الأمر الذي يعني نظريا ضبط سلاح الميليشيات التي يتداخل نفوذها السياسي والعسكري بسلطة الدولة، والتي شاركت بشكل أو بآخر في تنصيب علاّوي نفسه على رأس المنصب التنفيذي الأهمّ في العراق.
وساهم الوعد الأخير تحديدا في الانتقاص من مصداقية علاّوي قبل أن يشكّل حكومته ويستلم مهامه، ورفع من درجة معارضة الشارع الذي انتفض بقوّة ضدّ تكليفه، حيث يعلم المحتجّون أن ما يعرضه الرجل بشأن ضبط فوضى السلاح مجرّد أوهام سوّق لها قبله كلّ من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ورئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي دون أن ينجحا في المساس، بأي شكل من الأشكال، بسلاح الميليشيات أو يقلّصا من سلطتها ويحدّا من سطوتها على عملية صنع القرار.
وبدا علاّوي في مهمّة مستحيلة وهو يحاول استرضاء الشارع والحدّ من اعتراضه على تكليفه. وقال، الاثنين، إن اختياره جاء بعد طرح اسمه في ساحات التظاهر وتمثيله المحتجين السلميين.
وأضاف في بيان نشره على حسابه في فيسبوك “حققت التظاهرات نتائج باهرة برفضها الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى هذا الحال المزري. وتمثلت الإنجازات بوضع قانون جديد للانتخابات وواقع جديد لمفوضيتها، فضلا عن إسقاط مرشحي الأحزاب لتولي منصب رئيس الوزراء”.
لم يكن بإمكان علاّوي أن يصعد إلى منصب رئيس الوزراء من دون توافق أهم قادة الميليشيات الشيعية وأكثرها ولاء لإيران
وأضاف أنّ “مئة وسبعين من النواب المستقلين استجابوا لمطالب المتظاهرين فاختاروا خمسة مرشحين طُرحت أسماؤهم وصورهم في ساحات التظاهر”. وأردف قائلا “أجرى هؤلاء النواب المستقلون استفتاء بينهم على الأسماء الخمسة فوقع اختيار الأغلبية على اسم محمد توفيق علاوي”. وتابع بالقول إنّ “ما يخشاه الفاسدون هو أطروحات محمد علاوي في إنهاء المحاصصة السياسية؛ فيفقد هؤلاء ما يأملونه من فساد وسرقات، لذلك تحركوا لإشاعة أجواء البلبلة والفوضى وتفريق كلمة المتظاهرين”. ودعا المتظاهرين إلى “سحب فتيل النزاع والخلافات وعدم إتاحة الفرصة للفاسدين لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء”.
ولم يكن بإمكان علاّوي أن يصعد إلى منصب رئيس الوزراء دون توافق أهم قادة الميليشيات الشيعية وأكثرها ولاء لإيران، وعلى رأسهم هادي العامري زعيم ميليشيا بدر وقائد تحالف الفتح الممثّل السياسي لفصائل الحشد الشعبي، ومقتدى الصدر قائد ميليشيا سرايا السلام، والذي أعاد مؤخّرا إحياء الميليشيا القديمة التابعة له والمعروفة بجيش المهدي وزجّ بها في مواجهة دامية مع المحتجين في ساحات الاعتصام والتظاهر.
وتمكّن المتظاهرون الذين يخوضون حراكا احتجاجيا غير مسبوق في العراق منذ أربعة أشهر من الضغط على رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي وأجبروه على الاستقالة مطالبين برئيس وزراء جديد يتوفّر على مواصفات أساسية كالاستقلالية عن الطبقة السياسية الحاكمة والنزاهة والالتزام بعدد من الشروط وفي مقدمتها محاكمة قتلة المتظاهرين.
ويقول متابعون للشأن العراقي إنّ الانتفاضة الشعبية ضيّقت فرص الشعارات والوعود الإعلامية للسياسيين ومن يتولّى منهم سدّة المسؤولية بعد أن كشفت الوقائع أن رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي انقلب على على وعوده، ومن ضمنها ضبط السلاح المنفلت، بل إنّه استخدم السلاح ذاته في قتل المتظاهرين عندما استعان بالميليشيات في محاولته قمع الانتفاضة الشعبية.
وعرفت الميليشيات الشيعية في العراق حالة من التغوّل بعد مشاركتها في الحرب على تنظيم داعش وارتفع سقف الطموحات السياسية لقادتها الذين أنشأوا لها هيكلا سياسيا تحت مسمى “تحالف الفتح” الممثّل تحت قبة البرلمان والمساهم في صنع القرارات بما في ذلك عملية اختيار من يتولى رئاسة الحكومة.
وتظهر الخارطة التنظيمية والسياسية للميليشيات في العراق أنّ الجماعات المسلحة الموالية لطهران أصبحت هي الأقوى وفقا لدراسة نشرها مركز كارينغي الأميركي، حيث أشارت إلى أنّ المجموعات الأقوى في الحشد الشعبي هي تلك التي تحافظ على علاقات وثيقة ومتينة مع طهران وتدين بالولاء الروحي للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
وتشمل هذه المجموعة على سبيل المثال سرايا الخراساني وكتائب حزب الله وكتائب أبوالفضل العباس وعصائب أهل الحق وميليشيا النجباء، وجميعها أذرع للحرس الثوري الإيراني ولجهاز المخابرات الإيرانية.
وخلال فترة حكم رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي تعالت الأصوات منادية بضرورة إنهاء دور الميليشيات، ما دفع العبادي إلى محاولة ضمّ تلك الفصائل للقوات العسكرية والأمنية الرسمية وإخضاعها لإمرة القائد العام للقوات المسلّحة الذي هو رئيس الوزراء ذاته.
لكنّ تنفيذ ذلك التوجّه جاء مشوّها وعكسيا بشكل كامل، حيث أصبح الحشد شكليا مؤسسة رسمية تحظى بتمويل الدولة دون الخضوع لقوانينها ودون أن تغيّر الفصائل ولاءها لقادتها وزعمائها الحقيقيين.
وما زاد من خطورة الميليشيات في العراق هو امتلاكها للموارد العسكرية بما في ذلك السلاح الثقيل والطائرات دون طيار، إضافة إلى استنادها لاستشارة العسكريين الإيرانيين الذين تدفع مستحقاتهم المالية من خزينة الدولة العراقية. وتظهر هذه المعطيات أنّ حصر السلاح بيد الدولة وإنهاء التنظيمات المسلحة من أعقد الملفات التي ستواجه رئيس الوزراء العراقي الجديد في حال صدقت نواياه بتنفيذ وعوده، وهو أمر يستبعده المحتجّون ويعبّرون عنه بالتظاهر ضد تكليف علاّوي بتشكيل الحكومة.
العرب