وقف الجيشان التركي والسوري، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب هناك، قبل ثماني سنوات، في مواجهة حامية ضد بعضهما البعض، فقد الجيش التركي، على إثرها، وفقا للأرقام الرسمية المعلنة، خمسة من جنوده وثلاثة مدنيين، وفقد الطرف الآخر ستة من جنوده.
وشهدت إدلب تطورات متلاحقة مؤخرا، عقب اللقاء الذي عُقِد في موسكو في 13 يناير، بوساطة روسية، بين رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان، ونظيره السوري علي مملوك.
وفي رد فعل مباشر على التقدم السريع لقوات النظام السوري، بدأت تركيا بإرسال وحدات مدرعة باتجاه الحدود، ووصل إلى إدلب حتى الاثنين الماضي، وفق ما رواه شهود عيان، ما لا يقل عن 20 دبابة وعربة مصفحة.
بالتزامن مع ذلك أُعلن أن تركيا بصدد بناء نقطة مراقبة جديدة بالقرب من سراقب، وأنها تعزز من تدابيرها الأمنية في تلك المنطقة. ومع هذا، لا يمكن التيقن إن كانت التحركات التركية الأخيرة ستكون رادعة بشكل كاف لتحركات قوات النظام السوري أم لا.
قامت تركيا، خلال العام الماضي، بإمداد الجماعات التابعة لها بالسلاح في مواجهة قوات النظام السوري للحيلولة دون سقوط مدينة خان شيخون، الواقعة إلى الجنوب من إدلب، في أيدي هذه القوات، ولكن هذا لم يمنع تقدمها أيضا.
الهدف الأساسي لروسيا والنظام السوري هو تأمين الطرق المؤدية إلى حلب لأن تأمين هذه الطرق يعني انتزاع ما يقرب من نصف محافظة إدلب من أيدي قوات المعارضة.
لا نعلم إن كانت لدى أردوغان، الذي عاود هجومه الحاد على روسيا ونظام الأسد خطة (ب) بخصوص إدلب أم لا. وفي رأيي، إن البديل الوحيد الذي يمكن أن يلجأ إليه أردوغان هو أن يسعى لمقابلة بوتين ويطلب منه بطريقة أو بأخرى أن تُوقِف قوات النظام السوري تقدمها. ولتحقيق ذلك، يجب على أردوغان أن يقدم، في المقابل، تنازلات وأن يبدي استعداده للالتزام بما تعهد به.
لا شك أن تقدم قوات النظام السوري ينخر بشدة في هيكل الصداقة “القسرية”، التي أقامها أردوغان مع بوتين في الوقت الذي ينظر فيه الأول إلى بوتين باعتباره نوعا من الضمانة للحفاظ على مقعده في السلطة.
والواقع أن العلاقات التركية الروسية تمر الآن بحالة تدهور في جميع الاتجاهات، من ليبيا إلى شرق المتوسط، ومن بحر إيجة إلى سوريا، أو بتعبير أكثر دقة، إن التطورات المقبلة قد تحمل سيناريو كارثيا بالنسبة لأردوغان.
وفي رأيي، إن أردوغان لا يملك أي ورقة رابحة حقيقية يمكنه أن يضغط بها على بوتين. والسؤال الآن: كيف نفسر موافقة بوتين على مهاجمة الجنود الأتراك في سوريا؟
السيناريو الأول: أرسلت تركيا قوات إلى إدلب دون أن تخطر روسيا بذلك؛ وبالتالي أرادت روسيا أن تبعث برسالة إلى أردوغان عن طريق النظام السوري، الذي لم يكن ليهجم على القوات التركية دون إذن مسبق من روسيا، مفادها “أن خيوط اللعبة في إدلب لا تزال في يدي وحدي”.
السيناريو الثاني: توجه أردوغان، بعد ساعات قليلة من إرساله آليات عسكرية إلى إدلب، إلى أوكرانيا في زيارة لمدة يوم واحد في محاولة منه لاستغلال ورقة شبه جزيرة القرم للضغط على روسيا.
السيناريو الثالث: لم يعد لدى أردوغان المزيد من التنازلات، أو الضمانات، التي يمكن أن يقدمها إلى روسيا.
السيناريو الرابع: عدم وجود تنسيق تركي روسي في ليبيا، واستمرار أردوغان في إرسال قوات وأسلحة لدعم حكومة طرابلس.
السيناريو الخامس: معاقبة تركيا، التي عجزت عن التصدي لهجمات إدلب، ولم تلتزم بما قطعته على نفسها من تعهدات.
جميع السيناريوهات السابقة تصلح لأن تكون سببا أو مبررا للهجمات التي تعرضت لها القوات التركية، ومع هذا قد لا يكون السبب الحقيقي بينها أيضا. على أي حال، الأمر المؤكد هو أن العلاقة بين أردوغان وبوتين في إدلب صارت عند مفترق طرق حقيقي.
ومن المتوقع، في حال نجاح قوات النظام السوري في اجتياز العقبة التي وضعتها القوات التركية في طريقها إلى سراقب، أن تتمكن من تطهير المنطقة الواقعة على الطريق السريع حتى حلب من قوات المعارضة بشكل أسرع نظرا لعدم وجود بلدات أو مدن في هذه المنطقة يمكن أن تعيق تقدمها.
ومن المتوقع أن تتوجه قوات النظام السوري، بعد تأمين الطريق السريع، صوب المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية من إدلب؛ حيث يوجد الطريق السريع، الذي يمتد بين حلب واللاذقية.
النظام التركي يصعد من تهديداته ويحشد المزيد من قواته
النظام التركي يصعد من تهديداته ويحشد المزيد من قواته
وستتمكن قوات النظام السوري، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق جديد بين تركيا وروسيا من تطهير هذه المناطق في وقت قصير.
ويبدو أن الهدف الأساسي لروسيا والنظام السوري هو تأمين الطرق المؤدية إلى حلب؛ لأن تأمين هذه الطرق يعني انتزاع ما يقرب من نصف محافظة إدلب من أيدي قوات المعارضة.
والواقع، أن دخول منطقة يقطنها ما لا يقل عن أربعة ملايين شخص أمر صعب للغاية، ومن الممكن أن يؤدي إلى كارثة إنسانية كبيرة. وبالمثل، فإن عدم تمكن الميليشيات المسلحة المتمركزة في هذه المنطقة، والتي يقدر عددها بأربعين ألفا على الأقل، من الفرار إلى تركيا، سيضطرها إلى البقاء على الأراضي السورية في شكل خلايا نائمة، وهذا مبعث تهديد كبير آخر.
ولهذا السبب، قد يُترك لتركيا أمر إدارة هذه المنطقة، بشكل يشبه النظام المطبق في قطاع غزة، طالما كان وجودها لا يشكل تهديدا مباشرا للنظام السوري ولروسيا. وفي رأيي، إن هذا السيناريو سيحظى بقبول النظام السوري وأردوغان للأسباب التالية:
منع إقامة “دولة كردية” في شمال سوريا، كما أن وجود إدلب على هذا النحو، سيمثل عقبة أمام الأكراد للانفتاح على البحر المتوسط.
سيحد هذا السيناريو من تدخلات أردوغان بشكل أكبر في الأراضي السورية.
سيجد أردوغان مجالا آخر لعودة اللاجئين الذين يحاول طردهم من تركيا في الوقت الحالي.
ستتخلص روسيا والنظام السوري من عدد كبير من السكان السنة.
ستصبح تركيا هي المتنفس الوحيد لهذه المنطقة وبوابتها إلى العالم، تماما كما هو الحال بالنسبة لمصر وقطاع غزة، وسيكون الدخول والخروج من إدلب إلى سوريا تحت سيطرة تركيا.
سيتمكن النظام السوري من إحكام سيطرته على المناطق الأخرى من البلاد بشكل أكبر بعد أن تتولى تركيا أمر الجماعات والعناصر التي تشكل تهديدا له.
سيكون بمقدور النظام السوري شن هجمات، وقت ما يشاء، على بعض الأهداف داخل إدلب لوقف أي نشاط للمعارضة والعناصر الإرهابية، بشكل مشابه لما تفعله إسرائيل في قطاع غزة.
وفي حقيقة الأمر، إذا نظرنا إلى بنود اتفاق سوتشي، سندرك أن الغرض منها كان، في الأساس، إنشاء غزة جديدة على الأراضي السورية؛ ومن ثم يمكن القول إن روسيا والنظام السوري يحاولان الآن فرض هذا الأمر بالقوة بعد أن عجزت تركيا عن الوفاء بتعهداتها، أو لنقل بسبب عدم رغبتها في ذلك.
على أي حال، ستعطينا التطورات، التي ستشهدها سراقب في الفترة المقبلة، مؤشرا مهما عن مدى استجابة أردوغان لهذا المشروع، وإن كان سيقبل بالواقع الجديد بعد فترة أم لا.
العرب