ألقت الأحداث التي وقعت يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، والتي أدت إلى مواجهات ميدانية كبيرة وقتال متواصل بين حركة حماس والقوات الإسرائيلية في معظم الأراضي الفلسطينية إلى تحديد معايير مهمة وجدية اتسمت بها المواقف الدولية والإقليمية، وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط فقد حظي الموقف التركي والإيراني بعديد من المفاهيم والآراء السياسية التي انعكست بشكل واضح على مدى حقيقة الصراع القائم مع إسرائيل والموقف من القضية الفلسطينية بجميع توجهاتها وأبعادها وإمكانية إيجاد مواقع وفواصل تعمل بجدية لمواجهة الهجوم الإسرائيلي وإيقاف التصعيد الحاصل في قطاع غزة الذي استهدف البنى التحتية الإقتصادية والإجتماعية وأدى إلى تضحيات بشرية كبيرة وتهجير وابادة جماعية وهدم لأماكن العبادة والمحلات التجارية وحرق للبساتين والأراضي الزراعية.
بداية الأيام الأولى من الأحداث أعلن الجانب الإيراني عدم معرفته وعلاقته بما جرى من هجوم مقاتلي حماس على غلاف غزة والمستوطنات والمواقع العسكرية والأمنية فيها وأنه لا علم له بها،
واكتفت إيران بالمناورات الدبلوماسية والحديث عن عدم معرفتها بتوقيت العملية او الإعداد لها وأقرت بدعمها ومساندتها لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه واستعادة حقوقه، وهي بذلك تعلن عن سياسة تتمتل في توظيف استراتيجية عسكرية وإقتصادية متعددة الأبعاد والتي بدأتها عام 2011 بعد الأحداث التي جرت في سوريا بتوريد المعدات والتدريب الفني وتزويد الفصائل المسلحة التابعة لها والتي تتلقى الدعم من فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني بالأسلحة والمعدات واعدادها لتنفيذ المشروع الإيراني في المنطقة والحفاظ على استمرار التواجد العسكري في سوريا واليمن والعراق ولبنان وتجنب الدخول والتورط بأي مواجهة عسكرية إقليمية ومهاجمة إسرائيل لأن لديها اذرع وشركاء في محور المقاومة التي تتبع سياستها وتعمل وفق استراتيجيتها وتتصرف نيابة عنها وهي ما تمثل الرؤية الإيرانية السياسية حاليًا من الأوضاع القائمة في قطاع غزة.
منذ السابع من تشرين الأول 2023 سعت طهران إلى حصد فوائد استراتيجية من العمليات الإسرائيلية في غزة، وحاولت إيران توسيع قاعدة الداعمين لها ولشركائها الغاضبين في شأن الدمار والخسائر المؤلمة لأرواح أبناء الشعب الفلسطيني في غزة وسعت إلى توسيع هذه المواقف سياسيًا واعلاميًا، وما حدث يوم الثالث عشر من نيسان 2024 كان ردًا إيرانياً لم يكن استهدافًا بشأن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية وليس دفاعًا عن الأرض وتحريرًا للقدس الشريف كما كان يدعي النظام وأركانه، وإنما هو رد اعتبار واعادة تموضع لقواعد الاشتباك في المنطقة بعد الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق.
وكان الإلتزام الإيراني بالموقف الأمريكي من عدم تصعيد المواقف في المنطقة والابقاء على جبهة المواجهة بقطاع غزة وعدم التوسع في جبهات أخرى، وهذا ما يعني الحفاظ على المصالح الإيرانية عبر التوافقات الدولية والاستفادة من الفرص السياسية التي تعمل إيران على استخدامها وتوظيفها لصالحها بشكل فعال، وهي من تنظر إلى أهدافها الإستراتيجية والعملية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي عبر حواراتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الوسطاء لإيجاد حلول لأتفاق نووي جديد يؤدي إلى رفع العقوبات الإقتصادية وإطلاق الأموال المجمدة والحفاظ على نسبة 60٪ من تخصيب اليورانيوم والاستمرار في برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة.
لم تهتم إيران بمفاوضات الهدنة بين حركة حماس وإسرائيل ومساراتها إلا بما يحقق لها منافعها ومكاسبها عبر الإطالة وعدم تحقيق أي إنجاز ميداني، فالمشروع الإيراني أكبر وأبعد من أي تطورات في المنطقة وما ترغب فيه إيران من التوسع والتمدد وتحقيق الغايات في الهيمنة والسيطرة، ولا زال الموقف الإيراني لا يقيم أي معنى لوقائع وموازين القوى ومصالح الشعب الفلسطيني ويعمل على سياسة إعلامية واضحة تتحدد بمفهوم التحرير الكامل وهو الذي يبتعد عنها ويدفع بالآخرين لخوضها.
أما الجانب التركي فقد اعتمد على صيغ ووسائل أخذت طابع الحوارات الدبلوماسية في بداية الأحداث ثم توالت المواقف التركية والإجراءات السياسية والإقتصادية بتحديد المسار الطبيعي الذي يريد أن يكون قريبًا من مجريات الأحداث ويتعامل مع تداعياته بشكل متوازن وفعال، ويعلن رغبته في العمل ضمن عملية سياسية ملموسة تتعلق بالمشهد الفلسطيني ومستقبل الأوضاع في غزة واتخاذ عديد من الإجراءات التي أكدت أحقية الشعب الفلسطيني في إقامة دولته واحترام أرادته والتطلع لدور سياسي يساعد في وقف التصعيد والتلويح بعدة إجراءات كانت آخرها قطع العلاقات الإقتصادية ووقف التبادلات التجارية مع إسرائيل واعتماد مبدأ المواجهة السياسية ذات الأبعاد الحقيقية التي كلفت الجانب الإسرائيلي (5) مليار دولار للبحث عن بديل للمنتجات التركية.
رغم أن للموقف التركي أبعاد داخلية وانطباعات اجتماعية أكدتها الظروف الميدانية التي جسدها المشهد العام التركي، والسعي الجاد لمنع أي تطورات ميدانية والدخول في مسارات سياسية لمنع توسيع دائرة الصراع والقتال داخل الأراضي الفلسطينية وهذا ما يحظى برغبة وتأييد الإدارة الأمريكية وتوجهاتها واستراتيجيتها في المنطقة، وهي بذلك تشجع الأتراك على أن يكون لهم موقفًا متوازيًا مع الادعاءات الإيرانية التي تتمثل في الأقاويل دون الفعل المباشر، وهذا ما أكده رئيس اركان الجيش الإيراني ( محمد باقري) عندما حدثت الضربات المتبادلة في شهر نيسان 2024 بقوله ( ما لم ترد إسرائيل فإن إيران ستعتبر الأمر منتهياً)، وهدا الموقف الإيراني ابتعد عن ما يجري في الأراضي الفلسطينية فلم يتضمن أي اشتراط لوقف القتال في غزة أو زيادة المساعدات وعودة النازحين وكيفية إدارة القطاع مستقبلًا.
ان عملية التوازنات السياسية وأبعادها في منطقة الشرق الأوسط أخذت مدياتها الواضحة وكانت للأحداث التي انطلقت من الأراضي الفلسطينية دورًا مهمًا في تحديدها، فالموقف التركي الذي أبدى رغبة في لعب أي دور سياسي والإنخراط في مفاوضات مع حركة حماس وأي جهة دولية او إقليمية لوقف التداعي المستمر في غزة وإيجاد منافذ حقيقية وأدوات فعالة لوقف التصعيد عبر العمل في إطار المشهد الفلسطيني، يتناقض مع الموقف الإيراني الذي لا يبدي أي إهتمام معلن بأية مفاوضات أو ما يتعلق بحياة أبناء الشعب الفلسطيني ومستقبل الأوضاع في غزة مكررًا أولوياته في التمسك بمشروعه السياسي وأهدافه في المنطقة وحفظ نظامه القائم.
يندرج الدور التركي في أحداث قلق سياسي للنظام الإيراني عندما يضع يده في الملف الفلسطيني ويتأخذ مواقف ميدانية تؤثر في المشهد الداخلي الإسرائيلي، وهذا ما تخشاه المؤسسات الأمنية الإستخبارية الإيرانية من امتداده للملفين العراقي والسوري، خاصة بعد الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق وتوقيع للعديد من الاتفاقيات الثنائية ولقاءاته بالقوى والأحزاب السنية التركمانية وزيارته لإقليم كردستان واجتماعه مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، وهذا ما يعني توجه القيادة التركية لاحداث توازن سياسي يواجه النفوذ الإيراني في هذه الأقطار بما يحقق التوجهات المستقبلية للأتراك والتي تحظى بالقبول الدولي والإقليمي.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية