لم تفلح جميع التحذيرات والنصائح الصادرة عن الرئيس الإيراني حسن روحاني وشخصيات إيرانية من الإصلاحيين وحتى المعتدلين من التيار المحافظ في التخفيف من إصرار وجماح قوى النظام من متشددي وأصوليي التيار المحافظ للتمسك بما تعتبره فرصة سانحة للسيطرة على السلطة التشريعية والإمساك بعنان البرلمان في الانتخابات التشريعية التي ستجري في 21 فبراير (شباط).
وعلى الرغم من أن روحاني أعاد التذكير قبل أيام، في مؤتمره الصحافي الأخير مع وسائل الإعلام الداخلية والأجنبية في طهران، بخطورة المسار الذي يسلكه تيار السلطة، وأكد أن المرحلة تستدعي من الجميع، أحزاباً وتيارات الخروج من “عقلية الحزب الواحد” في قيادة البلاد، إلا أن صوت روحاني، وأصوات كثيرة تتفق مع الدعوة التي أطلقها، لم تجد من يدرك أهميتها ويعقل خطورة ما ستؤول إليه الأمور.
فالبرنامج الانتخابي الأبرز ولعله الوحيد الذي يسيطر على خطاب قيادات التيار المحافظ بمختلف أجنحته ومرشحيه للانتخابات البرلمانية لا يعدو أن يكون محصوراً في توجيه الانتقادات لأداء الحكومة والسلطة التنفيذية السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من دون أن يكون لهذه القيادات أي برنامج بديل مما تعلنه أو تطبقه الحكومة ورئيسها. فبرنامجها لا يقوم إلا على العمل لاستعادة السيطرة على مراكز القرار وتجميعها في يد التيار المحافظ الذي ينفذ سياسات النظام الداخلية والخارجية من دون اعتراض، بل قادر على الذهاب إلى أقصى حدود الولاء من دون أي اعتراض.
سياسة المقاطعة
وفي وقت لا يعير التيار المحافظ أي اهتمام للأصوات التي تتحدث عن مخاطر استبعاد المكونات السياسية والثقافية والفكرية الأخرى في المجتمع الإيراني، يبدو أن القوى والأحزاب السياسية الإصلاحية والمعتدلة وبعض المستبعدين من التيار المحافظ بسبب مواقفهم المنتقدة، قد تذهب إلى تطبيق سياسة المقاطعة للعملية الانتخابية من دون الإعلان عن ذلك، بل ستعمد إلى تغليف هذه المقاطعة من خلال المشاركة بالحد الأدنى الذي سمح به مجلس صيانة الدستور وبالأسماء والشخصيات التي نالت تأييد لجنة دراسة أهلية المرشحين في هذا المجلس، مشاركة لن تشكل خطراً على التخطيط الذي وضع التيار المحافظ عبر تمهيد الطريق أمام مرشحيه من أي منافس أو مرشح قادر على قلب المعادلة لغير صالح القوى المتشددة.
النسبة التي كشفتها استطلاعات الرأي حول حجم المشاركة المحتملة في الانتخابات، والتي تبلغ في أفضل التقديرات الإيجابية حوالى 24 في المئة في العاصمة طهران مقابل نسبة تتعدى الـ 75 في المئة تفضل عدم المشاركة أو مقاطعة الانتخابات، وهي نسبة موزعة بين شريحة تدعو صراحة إلى المقاطعة والعصيان المدني على طريق تغيير النظام. أما الشريحة الأكبر فهي التي تفضل عدم المشاركة من دون الإعلان عن موقف قد يدخلها في مواجهة مفتوحة مع النظام، وتعتقد أن التصويت لصالح مرشحي القوى والتيار الإصلاحي لن تشكل فارقاً في المسار الذي رسمه النظام للسلطة التشريعية التي يراد منها أن تكون مجلساً يؤيد سياسات النظام الداخلية والخارجية ويصادق عليها.
مخاوف
وأمام هذه الحقائق التي تشكلها اتجاهات المشاركة والمقاطعة في العاصمة طهران والتي تعطي مؤشراً إلى اتجاهات التصويت في المدن الكبرى، فإن التيار المحافظ ذهب إلى سياسات التمهيد لتراجع نسبة الاقتراع والتأييد والأصوات التي قد يحصل عليها في هذه المدن، من خلال التأكيد أن نتائج العاصمة والمدن الكبرى لا تشكل العامل الحاسم في النتائج النهائية للجهة التي سيكون لها الأكثرية النيابية، وأن عملية الاقتراع في هذه المدن تتداخل فيها عوامل ومؤثرات متعددة منها السياسية والفكرية والثقافية والحزبية، في حين أن التركيز يجب أن يكون على الاقتراع في الأطراف والنواحي والقرى التي تقترع بناء لمعطيات ومؤثرات مختلفة أكثرها محلية.
هذه المخاوف التي تبرز لدى التيار المحافظ حول نسبة المشاركة في المدن الكبرى، والإيحاء بارتفاع نسبتها في النواحي والأرياف، تعززها الدعوات المتكررة من كلا الطرفين الإصلاحي والمحافظ لمختلف شرائح المجتمع بالمشاركة الواسعة والمرتفعة في عملية الاقتراع وعدم “مقاطعة الصناديق” بحسب وصف روحاني، إذ إن ارتفاع نسبة المشاركة تعني للإصلاحيين ارتفاع نسبة فوز مرشحيهم أو المحسوبين عليهم وعلى الأحزاب الإصلاحية خصوصاً في المدن، وهذا ما أثبتته الانتخابات الماضية بكل أشكالها البلدية والنيابية وحتى في مجلس خبراء القيادة، في حين أن ارتفاع نسبة المشاركة في النواحي والأرياف، وتراجعها في المدن تضمن للتيار المحافظ تحقيق أعلى نسبة من الفوز بالمقاعد في البرلمان، وبالتالي تسمح له باعتبار هذه المشاركة إذا كانت كبيرة بمثابة استفتاء “ثالث” هذه المرة وخلال أقل من شهرين على شعبيته وشرعيته بعد أن اعتبر مسيرات تشييع الجنرال قاسم سليماني وذكرى انتصار الثورة كاستفتاء على هذه “الشرعية”.
حرب داخلية
ويخوض التيار المحافظ معركة من نوع آخر، لا علاقة لها هذه المرة بالإصلاحيين وأحزابهم، بل هي حرب داخلية بين أبناء ومراكز القرار داخل هذا التيار، وإن كان ظاهرها التنافس على المقاعد النيابية، إلا أنها تستبطن كماً كبيراً من معارك النفوذ والسيطرة، وهي معركة تقسم التيار المحافظ بين جناح متشدد مقرب من رجل الدين محمد تقي مصباح يزدي ويضم العديد من مؤيدي الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وجناح أصولي محسوب على المرشد الأعلى للنظام الإيراني ومقرب من قوات حرس الثورة الإسلامية ومؤسسات السلطة.
ولعل التنافس الأبرز بين هذين الجناحين يدور حول أي منهما سيكون الأقدر على فرض أو إيصال الشخصية المحسوبة على معسكره إلى رئاسة البرلمان والسيطرة على هيئة الرئاسة فيه من نواب ومساعدين ورؤوساء لجان. لذلك يبدو أن هذه المعركة ستكون مفتوحة وقد تنعكس تأُثيراتها على سياسات النظام الداخلية والخارجية.
اندبندت عربي