تنتهي المهلة الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومة القادمة بعد يومين، وتبدو الأمور أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، خاصة مع وجود نوايا مسبقة لأطراف عديدة للتهرب من مسؤولية الأزمة السياسية القائمة، من خلال إنكار حقيقية أزمة النظام السياسي الذي بني في العراق منذ العام 2006. وعبر القفز على الوقائع التي تثبت أن الجميع كانوا شركاء أصيلين في الوصول إلى حالة الانسداد السياسي التي يعيشها العراق اليوم، فالمسألة لا تتعلق بفشل الحكومة فقط، بل بفشل النظام السياسي بالكامل وبفشل الطبقة السياسية جميعها! وبالتالي مجرد تشكيل حكومة لا احد يعرف توصيفها، او مهامها المفترضة، عبر تجاوز الآلية التي حكمت تشكيل الوزارات المتعاقبة، لن يكون حلا سحريا لكل هذا الفشل. والأخطر من ذلك كله استغلال الازمة القائمة، وعلاقات القوة المختلة بين القوى السياسية جراء دخول السلاح طرفا في المعادلة، والتهديد به بشكل مباشر وصريح، لفرض احتكار أطراف سياسية للقرار السياسي، كمقدمة لاحتكار كامل للسلطة/الدولة.
بعد احتلال العراق عام 2003، عمل الأمريكيون على اعتماد نظام سياسي يستمد بعض مبادئ «الديمقراطية التوافقية» التي ترتكز إلى إدارة التنوع، وهو ما يسمى «الحكم بالإجماع «، من خلال إجراءات مقننة تضمن «تقاسم السلطة «، كما هو الحال في نماذج ديمقراطية ناجحة قدمتها كل من هولندا وبلجيكا وسويسرا والنمسا.
بدأ هذا النظام بنموذج مجلس الحكم (تم تشكيله في 12 تموز 2003)، والذي تشكل وفق معادلة مفترضة تتعلق بديموغرافيا العراق القومية المذهبية والدينية، ثم إدخال بعض هذه المبادئ في قانون إدارة الدولة الصادر في 8 أذار 2004 (الحكم من خلال ائتلاف واسع يضم جميع الزعماء السياسيين في المجتمع التعددي، الفيتو المتبادل، التمثيل النسبي في مجال الخدمة العامة وفي تخصيص الأموال العامة).
وعلى الرغم من أن الدستور العراقي للعام 2005 قد أطاح تماما ببعض هذه المبادئ، من خلال الغاء مبدأ الفيتو المتبادل الذي قرر الدستور مدته بأربع سنوات لمجلس الرئاسة الثلاثي (كردي وشيعي وسني)، ومن خلال اعتماده نظاما سياسيا قائما على أساس أنموذج «أكثروي» ـ نسبة إلى الأكثرية ـ وهو ما يعني، نتيجة لطبيعة القوى السياسية في العراق ذات البنية الهوياتية البحت والتي لا تتيح أي امكانية للتمييز بين الأكثرية السياسية والأكثرية الديمغرافية، وبسبب من طبيعة الاستقطاب الطائفي (الاثني والمذهبي) القائم، فإن «الأكثرية الديمغرافية»، من خلال تمثيلها النسبي في البرلمان لديها القدرة، ولو نظريا، على احتكار السلطة.
النظام السياسي في العراق اليوم أمام لحظة فاصلة؛ فهو يعيد الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الطبقة السياسية السنية بعد تشكيل الدولة العراقية عام 1921، وهو الفشل في إدارة التنوع في هذا البلد، والوهم بإمكانية طرف واحد أن يحتكر الدولة، وأن يفرض عليها هوية أحادية قسرا، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية
مع ذلك فإن النفوذ الأمريكي حينها وعلاقات القوة القائمة أيضا، فرضا سلوكا سياسيا يعتمد توافقات تكتيكية، لا تقوم على أي أسس دستورية، أو أعراف يلتزم بها الجميع، وصفت حينها بالتوافقية، من اجل الحفاظ على الوضع الهش القائم. وكان الامتحان الأول الذي أثبت فشل هذه التوافقات التكتيكية، تمرير مقترح قانون «الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم» الذي قدم في أيلول/ سبتمبر 2006، وهو القانون الذي شرع لاحقا رغم معارضة النواب السنة بالإجماع له، ثم استمرت السياسة المنهجية للإطاحة بهذه التوافقية المفترضة، وكان آخرها تشريع قانون «الموازنة الاتحادية لعام 2018» الذي تم رفضه بإجماع النواب الكرد!
ولم يقتصر الامر على آليات اتخاذ القرار في مجلس النواب، بل استمرت محاولات منهجية لاحتكار القرار على المستوى التنفيذي، من دون أي التفات لهذه التوافقية المفترضة، لعل أبرزها تعطيل تنفيذ المادة الدستورية المتعلقة بـ «مراعاة التوازن» بين مكونات المجتمع العراقي في القوات المسلحة (المادة 9/ أولا من الدستور العراقي). كما دخلت السلطة القضائية طرفا في ترسيخ هذا النموذج الأكثروي، ولعل المثال الأشهر في هذا السياق، تفسير المحكمة الاتحادية عبارة «الأغلبية المطلقة» التي اشترطها الدستور لتمرير بعض القرارات في مجلس النواب، ومن بينها القرار المتعلق بمنح الثقة للحكومة، أنها تعني: «أغلبية عدد الأعضاء الحاضرين في الجلسة بعد تحقق النصاب القانوني للانعقاد» (القرار 23/ اتحادية/ 2007)، أي المساواة بين الأغلبية المطلقة والأغلبية البسيطة! وهو ما يعني إمكانية حصول الحكومة على الثقة من خلال حصولها على ربع عدد أعضاء مجلس النواب +1 فقط!
اليوم، يبدو واضحا أن الفاعل السياسي الشيعي لم يعد يبالي لاعتراض الفاعلين السياسيين الآخرين (السنة أو الكرد)، وهو ماض باتجاه احتكار القرار السياسي، ومن ثم الدولة ككل، لأنه يعتقد أن علاقات القوة القائمة لا تتيح للسنة سوى الصراخ، بسبب من أزمة التمثيل السني الحادة، وانحسار السياسة السنية وتحولها إلى مجرد «سمسرة». فهو مطمئن إلى ان الطبقة السياسية السنية اليوم يمكن تحييدها من خلال رشوتها باستثمارات شخصية في المال العام عبر «مناصب» تمنح لهم حسب مستوى الرضا والقبول، أو حتى التعامل معهم بـالقوة إذا استلزم الأمر! كما ان علاقات القوى المختلة، التي ترسخت بعد ازمة الاستفتاء، لن تتيح للفاعل السياسي الكردي سوى حق الاعتراض من دون طائل، خصوصا بعد انتفاء الحاجة إليهم من أجل لعب دور بيضة القبان في مواجهة الخصم السياسي «السني» كما كان عليه الأمر فيما مضى، في ظل وهم مسيطر بأن التعاطي الدولي مع الإقليم الذي حصل لحظة الاستفتاء وما بعدها قابل للتكرار!
مع كل ما تقدم، يبدو ان النظام السياسي في العراق اليوم أمام لحظة فاصلة؛ فهو يعيد الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الطبقة السياسية السنية بعد تشكيل الدولة العراقية عام 1921، وهو الفشل في إدارة التنوع في هذا البلد، والوهم بإمكانية طرف واحد أن يحتكر الدولة، وان يفرض عليها هوية أحادية قسرا، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية!
القدس العربي