تركيا أمام الخيار الأسوأ في سورية، وهو الخيار العسكري الذي حاولت تجنبه منذ عام 2012. وكي تبعد أنقرة عن نفسها هذه الكأس المرّة، فإنها أتبعت شتى الطرق المتعرّجة، كي لا تنخرط مباشرة في الحرب السورية التي كانت تلحّ عليها كل يوم، منذ وقفت إلى جانب الثورة السورية في عام 2011. وبدا من الخارج، أكثر من مرّة، أن تركيا كانت قادرةً على أن تغير المجرى السوري، لو أنها زادت من وتيرة تدخلها العسكري إلى جانب الفصائل المسلحة، أو أنها وضعت ثقلها العسكري في الميدان، من أجل إقامة منطقة آمنة بحمايتها، ومن أجل وقف تدفق ملايين السوريين إلى أرضها، ولكن الحسابات لم تكن ملحةً كما هي عليه اليوم، بدليل أنها تركت حدودها كافة، البرية والجوية والبحرية، مفتوحة للسوريين، يعبرونها ذهابا وإيابا بدون تأشيرة حتى بداية عام 2016.
وكان في وسع أنقرة أن تساعد الفصائل المسلحة على إسقاط النظام قبل التدخل الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015، ففي ذلك الوقت، كان الطرف الإيراني منهكا وعلى وشك أن يرفع يده، وينسحب بعد أن عجز عن هزيمة الفصائل التي كانت تسيطر على أهم المحافظات السورية. وها هي النتيجة اليوم، حيث باتت تركيا في مواجهة مع إيران وروسيا، وروسيا بالدرجة الأولى، وتحول منحى النزاع من إسقاط النظام السوري لتصبح المعركة تخصّ دور تركيا وموقعها وأمنها القومي. وبات لا يخفى على أحد أن هناك امتحانا للدور التركي، ليس في سورية فقط، وإنما في ليبيا أيضا، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن لتركيا أن تتبع ذات الاستراتيجية والتكتيك في ليبيا، بسبب اختلاف المعطيات والإحداثيات الراهنة والتاريخية. ولكن إذا خسرت تركيا أوراقها في سورية فسوف تفقدها حكما في ليبيا وعموم الشرق الأوسط والخليج والعالم العربي والإسلامي، وهذا ما يعمل له الروس وإسرائيل والسعودية والإمارات ومصر، وهذا ما بدأ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يحذر منه في خطاباته خلال الأسبوعين الأخيرين، وأشار صراحة إلى أنه “إذا لم نتدخل في سورية وليبيا والبحر المتوسط وعموم المنطقة، فإن الثمن سيكون باهظاً مستقبلاً”.
نجحت تركيا حتى الآن في تجنب الوقوع في الفخ السوري الذي نصبه لها الإيرانيون والروس، ولكن الضغط الروسي المباشر عليها اليوم يهدف إلى إفقادها الصبر، وجرّها إلى المستنقع السوري، كي يسهل ضربها من عدة زوايا وبأسلحة متعدّدة، واحدها لعب ورقة الأكراد ضدها. وقد جرى تسريب أخبار، منذ ثلاثة أسابيع، مفادها بأن روسيا بدأت التنسيق مع حزب العمال الكردستاني، من أجل فتح معركة ضد تركيا في عفرين. وهذا التحالف غير مستبعد بالنسبة لروسيا وحزب العمال الكردستاني، ويمكن تحريكه على الأرض، من دون مشقة كبيرة، في حين أن آثاره سوف تكون كبيرة ومكلفة بالنسبة لتركيا. ومن هنا، يمكن تفسير أسباب الحشد العسكري التركي في الشهر الأخير، وإدخال أرتالٍ عسكرية إلى داخل سورية، في محافظة إدلب تحديدا. يتجاوز الأمر الضغط على روسيا من أجل الاعتراف بحدود الدور التركي في سورية. وهذا الدور يشمل إدلب ومناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام. بل هو قرار تركي لقطع الطريق على محاولات زعزعة استقرار تركيا من خلال دفع قرابة مليوني لاجئ سوري إلى أراضيها، وهذا رقم كبير بالنظر إلى أنها تستقبل الآن نحو أربعة ملايين. ومن ناحية خوض المعركة داخل سورية، إذا كان لابد منها.
كل ما يصدر عن أنقرة اليوم حيال الشأن السوري يؤكد أنها بدأت تحسّ، أكثر من أي وقت مضى، مدى بحرج اللحظة السورية وضيق هامش الخيارات، والأكثر خطورةً من ذلك كله الدخول في صدام مسلح واسع مع روسيا، قد يندلع في أي لحظة.
بشير البكر
العربي الجديد