جاء الإعلان عن صفقة القرن أو خطة ترامب في حوالي 181 صفحة، واحتوت الترجمة العربية للخطة على 42844 كلمة، ولم يرد مصطلح الشرعية الدولية أو القانون الدولي في نص الخطة إطلاقا. وردت كلمة الشرعية في سياق نص الخطة التالي: “سيتطلب ظهور هذا الواقع الجديد للتكامل الإقليمي تغييراً جوهرياً في السياسة الدولية. في المجال الدبلوماسي، على وجه الخصوص، ينبغي على الدول العربية، إلى جانب دولة فلسطين، التوقف عن دعم المبادرات المعادية لإسرائيل في الأمم المتحدة وفي هيئات متعددة الأطراف أخرى. على وجه الخصوص، يجب ألا يقدموا دعمهم لأي جهود تهدف إلى نزع (الشرعية) عن دولة إسرائيل”. يبدو النص هنا بإقرار ضمني عن الشرعية لكن الشرعية التي يقصدها تتعلق بإسرائيل فقط.
بتوسعة القراءة في النص نجد أن الخطة لم تتجاهل مصطلح الشرعية الدولية وتسقطه فقط، ولم تكتف بإضفاء الشرعية وفق فهم ترامب على إسرائيل فقط، لكنها ذهبت إلى حد مطالبة منظمة التحرير الفلسطينية بوجوب الابتعاد عن كل ما له علاقة بالشرعية الدولية، واشترطت الصفقة على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أولا: “الامتناع عن أي محاولة للانضمام إلى أي منظمة دولية دون موافقة إسرائيل”، ثانيا: “عدم اتخاذ أي إجراء، ورفض جميع الإجراءات المعلقة، ضد دولة إسرائيل والولايات المتحدة وأي من مواطنيهما أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وجميع المحاكم الأخرى”.
لم تكتف الصفقة في إعلانها بإسقاط الشرعية الدولية، وقد تبدو النصوص الواردة في النص غير كافية للإجابة عن السؤال أعلاه، ولكن بالبحث في النص نجد أن إعلان الصفقة قد خصص في ديباجته حظا للأمم المتحدة، وتحت بند “نظرة عامة على جهود الأمم المتحدة” جاء ما يلي: “منذ عام 1946، كان هناك ما يقرب من 700 قرار من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكثر من 100 قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ما يتعلق بهذا النزاع. قرارات الأمم المتحدة في بعض الأحيان غير متسقة وأحياناً تكون محددة زمنياً. هذه القرارات لم تحقق السلام”.
تُعفينا هذه الديباجة من استدعاء القرارات الدولية ومقارنتها بنص الصفقة، وقد أقرت الصفقة بوجود ما يزيد عن 800 قرار صادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن بمقتضي إعلان الصفقة وفهمها “لم تحقق السلام”، والسؤال إذا كانت قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن مجتمعين معبرة وممثلة عن الشرعية الدولية “لم تحقق السلام” فهل خطة ترامب قادرة على تحقيق السلام؟ وإن كانت الإجابة بالقبول ونعم فلماذا إذن نبقي عليها؟ أما إن كانت الإجابة بالرفض لا فلماذا قدم ترامب خطته إذن؟ أولا تعني الخطة في أحد معانيها التعدي على الشرعية الدولية بمؤسساتها وقراراتها؟ أولا تتعارض نصوص الصفقة مع القانون الدولي والشرعية الدولية التي لم تأت على ذكرهما إطلاقا؟
إن إعلان خطة ترامب للسلام لا تحقق السلام بقدر ما هي خريطة لحقل ألغام قد يتفجر في أي لحظة، والإعلان عنها لم ينتهك الشرعية الدولية ويعتدي عليها فقط، لكنها تتعارض مع وتتجاهل الإرادة الدولية، وهذا ليس استنباط الكاتب لكنه جاء في تعبير مجموعتين من أعضاء مجلس الأمن الدولي. ففي 11 فبراير/ شباط عبرت مجموعتان في بيانين منفصلين عن موقفهما من صفقة القرن بأنها “بعيدة عن الشرعية الدولية”، المجموعة الأولى عبر عنها وزير الخارجية والدفاع في مملكة بلجيكا فيليب جوفين، قائلا: “تبتعد مبادرة الولايات المتحدة، كما تم تقديمها في 28 كانون الثاني/ يناير، عن المعايير المتفق عليها دوليًا”، وتابع: “إن ضم أي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، يشكل خرقًا للقانون الدولي. إننا لا نعترف بسيادة إسرائيل على الأراضي المحتلة منذ عام 1967”.
أما المجموعة الثانية فعبر عنها ممثلو حركة عدم الانحياز الأعضاء في مجلس الأمن، الذين أكدوا التزامهم بتحقيق “حل عادل ودائم وسلمي لقضية فلسطين من جميع الجوانب ووفقًا للقانون الدولي وتوافق الآراء الدولي الطويل الأمد، والحفاظ على حل الدولتين، مع القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين المستقلة”. بل إن منظمة العفو الدولية “أمنيستي” وصفت مقترحات خطة ترامب في بيانها بـ”السيئة” وتنتهك القانون الدولي وتجرد الفلسطينيين من حقوقهم.
خطة ترامب أو ما بات يُعرف بصفقة القرن لا تكتفي بانتهاك قرارات الشرعية الدولية، لكنها تُنهي وتقضي أيضا على ما نصت عليه هذه القرارات بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية، وتطرح الصفقة إقامة دويلة في صورة أرخبيل تربطها جسور وأنفاق، وجعل مدينة القدس عاصمة لإسرائيل.
وكي لا أسقط الأبعاد القانونية المقارنة من القراءة بين ما ورد في نص صفقة القرن المعلن وبين ما نصت عليه القرارات الدولية سأكتفي بمثالين، الأول القرار (149) وهو من أشهر القرارات التي يحفظها عن ظهر قلب كل فلسطيني وكل مهتم بالقضية الفلسطينية، وقد صدر القرار في 11 ديسمبر/ كانون الأول لعام 1948، ويؤكد على “حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وحق التعويض”. بينما تعدّت صفقة ترامب على هذا القرار، حيث نصّت صراحة على “أنه لن يكون هناك أي حق في العودة أو استيعاب أي لاجئ فلسطيني في دولة إسرائيل”.
أما القرار الثاني فهو القرار (242) الصادر في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 1967، ونص على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في حرب يوليو/ تموز 1967، الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة والجولان السوري وسيناء المصرية. نجد أن صفقة القرن تتعدى على هذا القرار، ولا تطالب بالانسحاب من هذه الأراضي، وإقامة الدولة الفلسطينية عليها، بل إن خطة ترامب تضم أراض احتلتها إسرائيل عام 1967 إلى حدودها، وتعتبر القدس كاملة غير مقسمة عاصمة لها واحتفظت بالأغوار وكامل الحدود الشرقية للضفة الغربية، والتي تم احتلالها في ذلك العام. واعتبرت صفقة القرن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وطالبت بالإبقاء على الوضع القائم في المدينة والمسجد الأقصى.
إن إعلان صفقة القرن يعني أنه لم يعد بإمكان الفلسطينيين الرهان على الشرعية الدولية، ويعني أن هذه الشرعية وقراراتها ومنظماتها لم تعد قادرة على حفظ الأمن والسلم الدوليين وغير قادرة على تحقيق ما نشأت من أجله، وأن أهداف تحقيق السلام العالمي وفق إعلان الصفقة قد ذهبت أدراج الرياح. إن إعلان الصفقة يعني للشرعية الدولية العودة بالنظام الدولي لما قبل عصبة الأمم. وتعلن الصفقة “نصا” عن سياسة دولية جديدة، لا مكان للشرعية الدولية فيها.
القدس العربي