تلوح في العراق بوادر أزمة مالية حادّة، من شأن تضافرها مع الأزمة السياسية القائمة أصلا وحالة الغضب الشعبي غير المسبوقة، أن تضع النظام العراقي القائم منذ سنة 2003 أمام تحدّ غير مسبوق.
وما يضاعف من وقع الأزمة المركّبة وجود تشوّهات في النظام نفسه تفقده المرونة وإمكانية التكيّف مع الوضع الصّعب، وذلك بسبب وجود أحزاب قائدة للعملية السياسية غير مستعدة للتضحية بامتيازاتها ومكاسبها المالية في سبيل تنفيذ برنامج للتقشّف يبدو حتميا ولا مفرّ منه.
وكشفت وثائق رسمية ومصادر سياسية في بغداد أن تحالف الفتح البرلماني الموالي لإيران، رفض خطة حكومية لخفض الإنفاق بهدف مواجهة العجز الكبير في الموازنة العامة.
وأظهرت الوثائق التي اطلعت عليها “العرب” أن وزارة المالية قدرت العجز العام في موازنة العراق للعام الجاري بأكثر من 40 مليار دولار أميركي، بعدما تحدّد مستوى الإنفاق المتوقع خلال 2020 بنحو 140 مليار دولار.
وتشكل عوائد صادرات النفط أكثر من 95 بالمئة من الموارد المالية السنوية للعراق. وقال نواب في البرلمان إن وزارة المالية خططت لعملية الإنفاق عندما كانت أسعار النفط تلامس 70 دولارا أواخر العام الماضي ومطلع العام الجاري مع توقعات متفائلة بشأن نمو الطلب.
وعندما لاحت بوادر بشأن تزايد العرض على حساب الطلب في السوق العالمية، عدّلت بغداد توقعاتها وضبطت متوسط سعر البرميل الواحد من النفط عند حاجز 56 دولارا، على أن تبيع يوميا نحو 3 ملايين و800 ألف برميل. ومع ذلك، لم تغط هذه العوائد المنتظرة حجم الإنفاق المتوقّع المدون في الموازنة، التي سجلت عجزا كبيرا.
أول ملامح الأزمة تجسّد في عجز حكومة تصريف الأعمال عن تمويل خطة طارئة لمواجهة انتشار فايروس كورونا
وتقول المصادر إن أطرافا سياسية متنفذة تعيق توجه الحكومة نحو اتّخاذ إجراءات تمنع هدر المال العام وتضع حدا للفساد المالي المتفشي في مؤسسات الدولة.
ولكن الانهيار الجديد في أسعار النفط وصولا إلى معدلات أقل من 35 دولارا وتوقعات بوصولها إلى حدود 20 دولارا للبرميل الواحد قريبا، سيمثل كارثة للاقتصاد الريعي للعراق.
وتدور أشد مخاوف خبراء الاقتصاد في العراق، حول حقيقة أن البلاد تزوّد الصين بنحو ثلث احتياجاتها السنوية من النفط حاليا. ومع الانخفاض الحاد في الطلب الصيني على البترول، تنتظر بغداد ضربتين اقتصاديتين كبريين، الأولى عبر انهيار أسعار البترول دوليا والثانية بتراجع طلب أحد أهم المشترين في السوق العالمية.
وتُرجم بعض المخاوف سريعا، عندما تعثرت الحكومة العراقية في توفير نحو خمسة ملايين دولار بشكل عاجل طلبتها خلية أزمة مواجهة فايروس كورونا، لوضع خطط طارئة.
وخلال الأيام الثلاثة الماضية، طلبت حكومة تصريف الأعمال التي يديرها رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي من وزارة المالية إعداد خطة متقشفة لمواجهة انهيار أسعار النفط وتراجع الطلب الصيني على البترول العراقي.
لكن مصادر سياسية تؤكد أن تحالف الفتح الذي يقوده هادي العامري ويضم معظم الممثلين السياسيين للميليشيات العراقية الموالية لإيران، طلب من عبدالمهدي عدم المساس بمستوى الإنفاق المتوقع على بعض القطاعات، ما يفرغ خطة التقشف الحكومية من مضمونها.
ومعروف أن الموازنة العامة للبلاد تنقسم بنحو رئيسي إلى جزأين؛ يغطي الأول رواتب الملايين من الموظفين المدنيين والعسكريين والمتقاعدين، فيما يوجه الثاني لتغطية نفقات الوزارات التي تسيطر الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران على عدد منها، فيما تتحكم أحزاب سنية وكردية بعدد آخر.
انسداد الأفق السياسي
انسداد الأفق السياسي
وتعتاش جميع هذه الأحزاب والميليشيات على الجزء الثاني من نفقات الموازنة، المخصص لتشغيل الوزارات والدوائر والجهات الرسمية.
وتقول المصادر إن زعماء ميليشيات يسيطرون على عقود توريد بضائع لحساب وزارات، بينها التجارة والصناعة، طلبوا من الحكومة عدم المساس بالمبالغ المخصصة لتغطية الإنفاق في هذه المجالات خلال موازنة 2020، برغم عدم الحاجة لها حاليا.
وقدرت المصادر بأن نحو عشرين في المئة من مبلغ الإنفاق المتوقع في موازنة 2020 سيذهب بشكل مباشر إلى إيران، عبر عقود مع حكومة العراق تديرها ميليشيات وأحزاب موالية لطهران.
وفي حال بقي معدل الإنفاق المتوقع عند مستواه الحالي مع استمرار التداعيات الاقتصادية لتفشي فايروس كورونا، يمكن أن يصل عجز الموازنة العراقية إلى نحو الثلثين.
ولوّح مراقبون بأن الحكومة العراقية ربما لن تكون قادرة على دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين في غضون شهور من الآن، في حالة استمرت أزمة فايروس كورونا، ولم تستعد أسواق وأسعار النفط عافيتها، ما يفتح الباب على احتمالات مأساوية.