سيل من البشر في منطقة ضيقة ومكتظة، يغمر الحقول والتلال وينساب داخل المدن، يدخل إلى المدارس والمتاجر والمباني غير المكتملة، يتسلل إلى كل زاوية؛ إلى المسجد وملعب كرة القدم، إنهم النازحون في إدلب الهاربون من قصف قوات النظام السوري وداعميه الروس.
هكذا استقبلت محافظة إدلب (شمال غربي سوريا) مراسل صحيفة لوموند الفرنسية بنيامين بارت، بعد أن تمكن من الوصول إلى هذا الجيب الذي يسكنه ثلاثة ملايين نسمة، محتجزين بين القوات الموالية للنظام السوري، التي تأمل استعادة المنطقة، وشرطة أنقرة التي لا تدع أحدا يعبر الحدود.
وخلال عشر ساعات بين هؤلاء النازحين الذين طردوا من أرضهم تحت وطأة قصف الحكومة السورية وحليفتها الروسية، استطاع المراسل -بفضل سريان وقف إطلاق النار- أن يقدم صورة عن هذا العالم الذي يعيش خارج العالم، حسب وصفه.
وبعد إعطاء صورة عن مناظر الخيم الممتدة في السهل الواسع بألوانها البيضاء وأسقفها البلاستيكية الزرقاء، يلج المراسل إلى عالم النازحين، وأول من يقابله في سرمدا القريبة من معبر باب الهوى الحدودي، عجوز تعيش في خيمة مع سبعة من أحفادها.
تقول العجوز حاجة فاطمة -التي تعرف أن العديد من الأطفال ماتوا من البرد في الأسابيع الأخيرة- إنهم في الليل إذا اشتد البرد وفقدوا وسائل التدفئة يضعون الأطفال في الأغطية (البطانيات) ويعانقونهم حتى لا يتجمدوا.
مستقبلنا في تركيا
سكان هذا المخيم الذي يشبه المعسكرات –حسب المراسل- يعتمدون كليا على ما توزعه الأمم المتحدة من مساعدات، كالأرز والدقيق والزيت والعدس والسكر، حتى إن بعض النازحين أحيانا يبيعون سلة طعامهم لدفع ثمن موقع خيمتهم.
تقول فاطمة إن “اللحم لم آكله منذ شهور، أما الفواكه فدعنا من الحديث عنها”، لتضيف ضاحكة “إن وجودك هو الذي جعلني في مزاج جيد، آمل أن يسمع صوتنا، شكرا لك”.
غير أن محمد عبود ابن فاطمة الأربعيني يبدو أكثر قلقا على المستقبل، حيث يقول إن اتفاقية الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان التي عززت تقدم قوات النظام السوري في جنوب محافظة إدلب وغرب محافظة حلب التي جاءت منها الأسرة، يعني استبعاد أي عودة.
ويصيف عبود: “بشار كذاب، نحن لا نثق به، الأشخاص الذين عادوا إلى ديارهم بعد فرارهم من القتال اعتقلوا بعد بضعة أسابيع، مستقبلنا هو تركيا، وهناك إمكانية عبور الحدود مع أحد المهربين، ليس لدينا بعد الله سوى ذلك”.
من جانبه، يقول الثلاثيني خالد مراد من جبل الزاوية الذي احتله النظام مؤخرا، إنه يتوقع استئناف القصف، ويرى أن “وقف إطلاق النار لن يدوم لأن النظام يعتبرنا جميعا إرهابيين، وما لم تحصل معجزة، فلن نرى أرضنا مرة أخرى”.
رمادية وحزينة
ويلفت المراسل إلى أن العديد من الحواجز العسكرية التي كانت على الطريق اختفت، معللا ذلك بخوفها من الاستهداف من قبل الطائرات الروسية والسورية، وحتى نقاط التفتيش النادرة الباقية فهي تعمل دون اكتراث، مما يجعل الدخول إلى إدلب، يتم من دون تفتيش.
ورغم ذلك يوجد ملصق كبير يدعو إلى التعبئة العامة على خلفية صورة للمقاتلين، وكتب عليه “لا بديل عن المواجهة”، وتحتها أرقام هواتف للاتصال بالنسبة لمن يريد الانضمام إلى صفوف المقاومة المسلحة.
ورأى المراسل مدينة إدلب التي تحمل آثار تسع سنوات من الحرب، رمادية وحزينة ومليئة بالمباني المحطمة وأكوام الأنقاض وبقايا القنابل، ولكنها خلافا للمدن التي تم هدمها وتهجير سكانها بالقوة، لا تزال على قيد الحياة، تمتلئ حديقتها العامة بالعائلات التي أتت لتذوق الساعات الأولى من وقف إطلاق النار، التي لم تذقها منذ ديسمبر/كانون الأول 2019.
ورغم دفق الحياة الذي يصفه المراسل في المدينة متمثلا في المطاعم والألعاب، لا تكاد المأساة تغيب عن عينيه، فهذا المسجد الكبير يضج بصراخ الأطفال وهو يعج بالناجين من سراقب التي وقعت في يد النظام، وهذا ملعب المدينة الذي كان “مكانا للحفلات، أصبح مليئا بالحزن”، كما يقول أحد موظفي المنظمات الخيرية.
لن تكون هناك عودة
وتقول المسنة سميرة دحل عند ذكر أبنائها الذين فقدتهم أثناء هروبها “أعتقد أنهم غادروا إلى لبنان، ثلاثة آخرون ماتوا في القتال، وأنا وحدي الآن”، وبالقرب منها تبكي حسناء مصطفى على منزلها في جبل الزاوية، وتقول “أردت أن أبقى بالقرب من قبر ابني الذي مات في المعركة، لا أحتمل أن يخطر في نفسي أنه يشعر بأنني تركته، ولكنني لا أستطيع العيش مع من قتله، وعلى أي حال، فإن النظام لا يريدنا، لن تكون هناك عودة، نحن نعرف ذلك”.
وهذه –كما يقول المراسل- هي الرسالة التي بعثها مشردو إدلب، وهي أن نزوحهم ليس نتيجة مؤسفة للحرب، بل هو الغاية من الحرب أصلا، يقول عبد الرازق عوض “نظام الأسد يريد طردنا جميعا، لأنه يعلم أنه لا يمكن أن يسيطر على هذه المنطقة ما دام فيها هؤلاء السكان الذين يكنون له العداء، وإذا لم يوقفه أحد، فيمكنه أن يدمر حتى خيام المشردين”.
وإدراكا من سكان المنطقة بأنهم يواجهون حرب إبادة –كما يقول المراسل- فقد اقتنعوا جميعا تقريبا بأن الهدنة لن تدوم، وهم لذلك يحاولون بكل الطرق عبور الحدود التركية، في رحلة مكلفة ومحفوفة بالمخاطر، وغالبا يعود معظم من يحاولونها وعلى أجسادهم آثار الضرب إن لم يخترق الرصاص أجسامهم.
ومع ذلك هناك بقية من القوم –حسب المراسل- متشبثة بالأرض، كما تقول حسناء “أفضل أن آكل الحجارة في بلدي على الذهاب إلى ألمانيا”، وتستمر الرغبة في البقاء على قيد الحياة بعناد لا هوادة فيه رغم اليأس القاتل في إدلب.
المصدر : لوموند