إذا شاهدنا فيلماً ما، مِن نهايته إلى بدايته، سنتمكن من اكتشاف الأسباب التي صاغت أقدار أبطاله؛ كذلك هو الحال مع الأفراد والمجتمعات على أرض الواقع.
حين نمعن النظر في الأزمة البنيوية القائمة في العراق الآن، نكتشف أن السبب يكمن في فشل النظام السياسي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق عام 2003، بتقديم الخدمات الأوليّة لشعب يصل عدد سكانه اليوم إلى 40 مليون نسمة، رغم الثروات الضخمة التي أتته من تصدير النفط، ورفع العقوبات الدولية التي فُرضت عليه منذ غزو صدام حسين للكويت في 2 أغسطس (آب) 1990.
وما كان هذا الفشل إلا بسبب فرض المحتلّ نظاماً مماثلاً لنظام الولايات المتحدة على بلد خرج شعبه للتوّ من غرفة عمليات جراحيّة وهو ما زال مخدَّراً، بعد حكم استبداديّ مطلق، عرف خلاله ثلاث حروب كبرى، قُتل خلالها أكثر من مليون عراقي، وعاش حصاراً اقتصادياً دام أكثر من عقد، كان كافياً لتدمير منظومات التعليم والصحة التي حقق العراق فيها، وعبر تراكم دؤوب ابتدأ منذ تأسيس دولته عام 1921، قفزة نوعية مقارنةً بالكثير من بلدان العالم الثالث.
سيتحوّل أولئك الذين تركوا المدارس وراءهم حين كانوا أطفالاً لمساعدة عوائلهم خلال سنوات الحصار، مقاتلين في الميليشيات التي ظهرت بعد حلّ الجيش وأجهزة الأمن على يدّ الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر.
ومثلما فرض المحتلون البريطانيون نظاماً شبيهاً بالنظام السياسي البريطاني بعد تأسيس دولة العراق، خلال سنوات الانتداب التي انتهت عام 1932، قلّد المحتلون الأميركيون نسخة النظام السائد في الولايات المتحدة، مع الأخذ بنظر الاعتبار المكونات الثلاثة الأساسية: الشيعة والسنة والكرد. وهذا يعني تجنب فرض حكم رئاسي مثلما هو الحال في بلدهم والقبول بنظام برلماني تكون السلطة التنفيذية فيه بيد رئيس الوزراء، بينما يكون منصب رئاسة الجمهورية شرفياً ومراسمياً.
ومثلما أنشأ البريطانيون نظاماً ملكياً دستورياً يقوم على فصل السلطات الثلاث: القضائية والتنفيذية والتشريعية، ويُجرى انتخاب أعضاء السلطة الأخيرة كل أربع سنوات، وتكون هناك الصحافة العلنية سلطة رابعة، كرّر الأميركيون النسخة نفسها مع نظام جمهوري هذه المرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، من دون الأخذ بنظر الاعتبار التركيبة السكانية المعقدة الخاصة بهذا البلد.
يمكن القول إن المحتلَين، البريطاني والأميركي، لم يضعا في نظر الاعتبار، حقيقتين: الأولى هي أن النظام الديمقراطي في الغرب جاء (غالباً) بعد تشكّل دولة قوية فعالة ومتكاملة في نشاطاتها ووظائفها وخدماتها، فمن دون ذلك سيتحول أي بلد إلى الفوضى، إذا أقحم تحقيق مهمة إقامة نظام ديمقراطي حقيقي مع مهمة بناء الدولة الحديثة. والثانية هي أن السكان في بلدان ذات تنوّع عرقي وعشائري ومذهبي، مثل العراق، لا يصوّتون في أي انتخابات، سواء كانت محليةً أو وطنيةً، على أساس مصالحهم الشخصية ومصالح أسرهم، بل على أساس انتماءاتهم التي وُلِدت معهم، من دينية إلى عرقية إلى عشائرية إلى إثنية، لذلك فإن المنتخَبين لن يمثلوا الأفراد على أساس وطني على الإطلاق. وقد أنتج هذا النمط المتطور من الأنظمة السياسية أزماتٍ عضويةً متعددةً خلال العهد الملكي، والعهد الذي أعقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
كذلك، هناك تشابه في الحالين: كلا النظامين الجديدين أُنشئا على ركام نظام استبدادي جائر، لا ردّ فيه على المعارضة غير القتل والتعذيب والتشريد، فالتحول الذي شهدته الإمبراطورية العثمانية بعد ثورة عام 1908 وسيادة حركة “تركيا الفتاة” ذات النزعة القومية على الحكم، لم يغيّر من روح الهيمنة على الأمم والكيانات المجتمعية الأخرى لدى نخبة القوميين الأتراك الحاكمة، واتّباع أساليب العنف المفرط والإبادة الجماعية إذا لزم الأمر ضدها، وما كانت الإعدامات التي نفّذها جمال السفاح، والي سوريا، بحق مثقفين سوريين ولبنانيين بعد محاكمات صورية خلال عامي 1915 و1916 في دمشق وبيروت إلا مثالاً على طبيعة الحكم العثماني، حتى بعد نزع القشرة الدينية وإحلال النزعة القومية التركية المحضة بدلاً عنها.
كذلك هو الحال في العراق حتى عام 2003، فالقبضة الحديدية للرئيس صدام حسين، بمحاكمه “الثورية” وأجهزة استخباراته وأمنه، كانت بالمرصاد لكل صوت معارض.وكأن التحول المفاجئ إلى نظام شبيه ظاهرياً بأنظمة الغرب قد فتح الباب واسعاً لارتفاع الصوت المعارض بتنوعاته في كلتا المرحلتين.
بعد عام 1921، ازدهرت الصحافة في العراق على الرغم من أن نسبة الأمية كانت عاليةً جداً. وبعد عام 2003 بلغت المجلات والصحف رقماً قياسياً، وفي كلتا الفترتين أصبح انتقاد السلطة حقاً يُقرّ به الدستور.
كذلك هو الحال مع النخبة الحاكمة في كلتا المرحلتين: فبعد عام 1921 اعتمد الملك فيصل الأول على الضباط العراقيين الذين انشقوا عن الجيش العثماني والتحقوا بالثورة العربية التي كان يقودها فيصل بن الحسين مع بدء الحرب العالمية الأولى، وبعد احتلال فرنسا لسوريا عام 1920، وخروج الملك فيصل منها، عاد هؤلاء الضباط معه إلى العراق وأسهموا في إنشاء الدولة الفتيّة معه.
أما بالنسبة إلى النخبة الحاكمة الجديدة بعد عام 2003، فأغلب قادتها عاش في المنافي منذ أواخر السبعينيات، بعضهم كان في إيران، وآخرون في سوريا، وغيرهم في بلدان أوروبية أبرزها بريطانيا وفرنسا.
الاختلاف بين كلتا النخبتين يكمن في عنصرين:
كانت النخبة الجديدة الحاكمة في العراق عام 1921، بمَنْ فيهم الملك فيصل نفسه، ذات توجه وطني، تسعى إلى بناء الجسور مع المكونات الشعبية، وإشراك ممثليها في الحكم، على الرغم من موقف المرجعية الشيعية المتحفظ من النظام الجديد.
مع حلول الخمسينيات كانت الخريطة السياسية، سواء بالنسبة إلى المعارضة أو السلطة، تغيّرت بشكل كبير، فقد أصبحت متجاوزةً للحدود المذهبية والإثنية. كان رئيس وزراء آخر حكومة عراقية تشكّلت في العهد الملكي كردياً، هو أحمد مختار بابان، بينما كان عبد الكريم الأزري الشيعي وزير مالية دولة الاتحاد الهاشمي. وهذا الوضع ينطبق على المعارضة أيضاً.
كان الانقسام قائماً بين ممثلي السلطة والمعارضة على الموقف من الكتلتين الدوليتين المتصارعتين عبر الحرب الباردة التي سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين عام 1989، وعلى الموقف من المعاهدة التي تربط بريطانيا بالعراق.
أما بالنسبة إلى النخبة السياسية التي جاءت مع الاحتلال البريطاني وبحماية جنوده، فإنها كانت في الغالب محملة بتوجه طائفي أو إثني (بالنسبة إلى الزعماء الكرد)، فلم يحتل المشروع الوطني الموقع الأول في اهتمامهم، بل كما زعم الكثيرون منهم حصول طائفتهم على أكبر جزء من الكعكة الوطنية، أما بالنسبة إلى الزعماء الكرد فكان مشروع الدولة الكردية هو هاجسهم الأساس وضمان انتزاع أكبر مساحة ممكنة من جسم العراق لضمه إلى كيانهم المنفصل مستقبلاً.
كأن المشروع الوطني بالنسبة إلى النخبة الحاكمة التي جلبها الاحتلال الأميركي هو وسيلة أكثر من أن يكون غاية بحد ذاته، كما هو الحال عام 1921.
لذلك جاءت المحاصصة في صياغة كل مؤسسات الدولة تجسيداً لهذا التوق الطائفي- الإثني.
غير أن السنوات الثماني التي حكم فيها رئيس الوزراء نوري المالكي، زعيم حزب “الدعوة الإسلامية” الشيعي، بين عامي 2006 و2014، أثبتت خطورة هذا النهج، الذي آل إلى بروز دولة عراقية فاشلة بجدارة. إذ تحوّلت الوزارات إلى جزر منعزلة بعضها عن البعض، تخدم بالدرجة الأولى مصالح الوزير وفريق عمله الذي هو في الغالب من أفراد عائلته وأقاربه وأصدقائه.
فكأن الورقة الطائفية- الإثنية هي نفسها وسيلة للاستفادة الشخصية وتشكّل مافيات متعاونة فيما بينها تضم هذه المكونات الثلاثة نفسها: الشيعة والسنة والكرد.
مع فقدان الآلية البيروقراطية التي ظلت الدولة العراقية تتبعها منذ تأسيسها، والتي هي نسخة محلية عن الجهاز الحكومي البريطاني، تَعمّق الخراب والبطالة وأزمات الكهرباء وغيرها يوماً بعد يوم.
وهذا على عكس ما جرى بعد عام 1921 من نمو سريع لبُنى الدولة الناشئة وانغمار عدد كبير من القياديين السياسيين في لعب دور إيجابي بتطورها، نجد أن ما حدث خلال السنوات الثماني التي حكم المالكي فيها، عكس ذلك. انفجار الفتنة الأهلية التي راح ضحيتها عددٌ كبيرٌ من أبناء مدينة بغداد من دون أي سبب، سوى الخلفية المذهبية، ثم انتهت هذه الفترة باحتلال ثلث العراق على يد تنظيم “داعش” الإرهابي. وكان السبب الأساس هو عدم تأهل القادة العسكريين المكلفين الدفاع عن البلد، لأنهم اختيروا لا على أساس معايير مهنية حقيقية بل على أساس مذهبي محض.
الفرق الآخر بين الاحتلالين، أن الأول واجه رفضاً شعبياً واسعاً حين أراد فرض الحكم المباشر للعراق بعد دخول القوات البريطانية بغداد عام 1917، وكان هذا الإجماع وحَّد أبناء المدن ورجال العشائر وشيوخها، وجاءت ثورة عام 1920 تتويجاً لهذه الوحدة في رفض المشروع البريطاني، الذي كان ينوي ضم العراق إلى إدارته في الهند.
أما الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 فواجه جنوده منذ أول خرق للحدود العراقية مقاومة قوية استطاعوا تصفيتها بفضل أسلحتهم المتطورة ودور الطيران الأميركي الحاسم، لكن احتلال العراق كلفهم لاحقاً كثيراً، فالمقاومة متعددة الأطراف كلّفتهم خسائر فادحة في الأرواح والأموال على امتداد سنوات بقائهم في العراق حتى عام 2011.
فرقٌ مهمٌ آخر بين الدولتين اللتين جاءتا في أعقاب احتلال أجنبي للعراق: في الحالة الأولى استفاد الملك فيصل الأول (المشهود له بحكمته وكاريزميته) من الوجود البريطاني والمعاهدة التي تربط بلاده بالمملكة المتحدة في حماية الحدود، حين كان عدد أفراد الجيش العراقي لا يزيد على المئات، على الرغم من أنه سيسعى لاحقاً إلى إلغائها، فبفضل القوة العسكرية البريطانية كفّت تركيا عن المطالبة بالموصل وأجزاء أخرى من شمال العراق، وكفّت إيران عن التدخل في شؤون العراق، على الرغم من إصرارها على أخذ الجزء الأكبر من الجانب الشرقي لشط العرب، وقد انتهى الإشكال القائم معها على الحدود عام 1937 حين وقعّ العراق اتفاقية معها حددت فيها مسافة 8 أميال من شرق شط العرب انطلاقاً من مدينة عبادان الإيرانية.
أما بعد الاحتلال الثاني الذي أعقب تأسيس الدولة العراقية بأكثر من ثمانين سنة، فقد تزايدت أعداد الميليشيات المرتبطة بإيران وازداد النفوذ الإيراني عبر العديد من القادة السياسيين الذين أقاموا فترة طويلة في طهران بعد هروبهم من بطش نظام صدام حسين، وبعضهم قاتل ضد الجيش العراقي خلال الحرب العراقية- الإيرانية ما بين عامي 1980 و1988.
لقد كانت النتيجة عودة العراق ساحة مثالية للصراع بين: الولايات المتحدة وإيران، مثلما كان الحال خلال القرون الخمسة التي أعقبت سقوط بغداد بيد المغول عام 1258.
الفرق الآخر بين الدولتين هو أن الأولى اندفعت في إخراج العراق من القرون الوسطى إلى عالم الحداثة بالانغمار في بناء الطرق وإنارتها وإرسال البعثات إلى الغرب وتوسيع التعليم بشكل كبير وتكوين جيش وطني محترف قادر على حماية البلد من دون مساعدة بلد آخر، أما بالنسبة إلى الدولة الثانية فكان الهمّ الاستفادة الشخصية الغالبة على النخبة الحاكمة الجديدة واستغلال الورقة الطائفية الإثنية إلى أقصى مداها، ونتيجةً لذلك تراجع البلد شيئاً فشيئاً إلى الوراء واتّسعت البطالة وتراكم الخراب فيه.
مع ذلك، برز أملٌ بتجاوز حالة الاحتضار التي كان البلد يعيشها مع قدوم حيدر العبادي إلى سدة الحكم، فهو على الرغم من انتمائه إلى حزب “الدعوة الإسلامية”، فإن خلفيته التعليمية والمهنية هيأته ليكون بيروقراطياً جيداً يستطيع إحياء الدولة العراقية السابقة من دون جور مؤسساتها الأمنية، لكن العراق أضاع فرصة ذهبية للنهوض حين قُوطعت الانتخابات الأخيرة عام 2018 بأكثر من ثمانين في المئة، وهذا ما أدى إلى فشل قائمته بكسب أغلبية الأصوات في البرلمان العراقي وعودة الأحزاب الطائفية المرتبطة بإيران بشكل أو بآخر إلى الحكم.
كم يبدو ضياع هذه الفرصة الذهبية شبيهاً بفرص أخرى في الماضي القريب، كان تحقّق أي منها سيجنب البلد هذا الواقع القاتم الذي يعيشه العراقيون اليوم.
لؤي عبدالإله
اندبندت عربي