النظام السياسي العراقي، الذي أنتجته المحاصصة السياسية التي باتت عُرفاً لا يستند إلى دستور أو قانون موجب، هل وصل إلى نهاية الطريق الحتميّ؟ وهل أوصل السياسيون العراقيون الدولة بعد رحلة 17 عاماً من حكم الطوائف التي تصفها منظمات الشفافية الدولية بالفاشلة إلى مفترق الطريق بين بقاء الدولة موحدة أو الانزلاق نحو هاوية التمزق؟
حصاد سنوات الجمر… تأصيل
تناقضات عديدة حملتها العملية السياسية في العراق بعد الاحتلال وحكم الدولة البرلمانية، فالحكم توزّع على المكونات وفق عدد الأصوات التي كممت المجتمع إلى أعداد تأخذ حصتها في الكابينات الوزارية التي توالت خلال 17 سنة، موزّعة على 14 وزارة سابقة، منذ أن تولى الحاكم المدني بول بريمر حكم العراق زمن الاحتلال المباشر والاختلال الوظيفي للدولة، التي أُريد لها أن تكون دولة اتحادية تلبيةً لمحصلات ونتائج ثلاثة مؤتمرات للمعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين التي بدأت مطلع التسعينيات وبتغذيات إقليمية عربية وأجنبية، تمثلت في مؤتمر فيينا العام 1992، ومؤتمر لندن العام 2002، ومؤتمر منتجع صلاح الدين العام قبيل الاحتلال.
وقتها، توافق السياسيون الشيعة والكرد ونفرٌ من السُّنة، يمثلهم الحزب الإسلامي واجهة الإخوان المسلمين في العراق، على إسقاط النظام وتحويله من النظام الرئاسي المُحكم القيادة إلى زعامات متعددة ومتناقضة المشارب والرؤى، أفرزته العملية السياسية في ما بعد.
نظام المحاصصة والمكونات
أجندة ورؤية فرضها الراعي الأميركي، الذي احتل البلاد بلا موافقة دولية، وفرض نظام التحاصص والمكونات الذي قاد إلى تشظية البيت العراقي الموحد، وأحدث شرخاً كبيراً كرّسه دستور المنتصر الشيعي – الكردي على باقي المكونات العراقية، لينتج عملية سياسية بديكتاتورية الغالبية الشيعية بمحصلة 180 نائباً من مجموع 338، وثلث كردي مُعطل للدستور، وتمثيل سني من أجل صياغة برلمان المكونات المتوافقة، التي أتاح لها الدستور اشتراك ثلاث محافظات لتشكيل إقليم يرتبط بالدولة الاتحادية، فُصّل على قياس الكرد الذين منحهم الغرب حق تأسيس حكومة الإقليم فوق خط العرض 36 بُعيد غزو صدام حسين الكويت كعقوبة لنظامه الذي وصف بـ”المارق”، وحماية للمكون الكردي الذي تماهى مع متغيرات تلك المرحلة الحرجة في تاريخ العراق.
بل، طالب في ما بعد بإعلان الاستفتاء الشعبي العام تمهيداً للاستقلال وتحقيق مشروع نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن الذي نادى بفكرة الدويلات الثلاث: الشيعية والكردية والسُّنية، وهو ما رفضته الغالبية العراقية، وأسقطته تماشياً مع وحدة البلاد، ومصلحة الدولتين القويتين: تركيا وإيران اللتين تخشيان من انسلاخ المناطق التي تحوي غالبية كردية فيها، لا لسواد عيون العراقيين، كما أكد لي وقتها الرئيس التركي السابق عبد الله غول حينما التقيته مع مجموعة صغيرة من الإعلاميين العراقيين في أنقرة قبل سنوات قليلة، عند سؤالي عن مغزى الموقف الكردي من وحدة العراق.
تحديات الحكم في العراق
هذه المعادلة في حكم العراق لم تعد تتماشى مع التحديات الجديدة التي تواجهها البلاد، خصوصاً في ظل ضعف الدولة وهيمنة قوى إقليمية تسعى لتحويلها إلى حديقة خلفية أو ظل سياسي يخدم مصالحها، وغياب استراتيجية أمن قومي عربي فاعل لإرجاع العراق إلى بيئته الطبيعية حائط صد للعالم العربي، أو ما كان يُطلق عليه “البوابة الشرقية” للعالم العربي على حد وصف الكاتب المصري جمال الغيطاني الذي كتب عن حرب الجيش العراقي في الشمال، التي تداعت لأسباب كثيرة غير الاحتلال الأميركي، ومكّن الإيرانيين لسد الفراغ الذي طالب به الرئيس نجاد علناً ليكونوا بديلاً عنهم العام 2011 في حال الانسحاب.
غزو الكويت… خطيئة الشاطر
الارتكابات العنيفة التي يتحمّلها النظام العراقي بعد غزوه الكويت العام 1990، تسببت في الانهيار الكلي للأمن القومي العربي، ومكّنت من تبديد قوة العراق الخارج منتصراً سياسياً من حربه مع إيران والمتداعي اقتصادياً بعد ثماني سنوات ضروس، وأتاحت فرصة لتنفيذ أجندات كثيرة لتوزيع العراق حصصاً بين دول الإقليم المتصارعة، لا سيما إيران التي سعت للتخلص من المحاصرة بنظام العقوبات الأميركي منذ قيام الثورة الخمينية، وكما يقول المثل العراقي “مكروهة وجابت بنت”، كما يتداول العراقيون الذين يفضّلون المولود الذكر في ثقافتهم.
تلك الحقيقة التي يدركها الوطنيون العراقيون أنّ الزمن ليس في صالحهم كلما ظل هذا التشظي المجتمعي وتكريس الحكم الطائفي المحاصصي الذي يتغذى من مصادر عديدة.
ماذا أنتج الحكم الطائفي؟
الحكم الطائفي أنتج دوامة الفساد التي تغرق فيها البلاد وسط الهدر المستمر لثرواته المليارية بنتيجة عائدات النفط، التي تحققت بعد رفع الحصار عليه كنتيجة من نتائج إسقاط النظام السابق، لا سيما أن قرار التصرف بالعائدات والميزانيات بيد السياسيين الشيعة من بوابة توليهم رئاسة الحكومة الذين بطبيعتهم وتبعيتهم ومرجعيتهم السياسية يوالون إيران في كرسي الحكم، بعد أن مكّنتهم من تأسيس عشرات الميليشيات والأتباع لها في العراق، وسلّمتهم بل دوّرت وجودهم مع أجهزة ومؤسسات الدولة بعملية غير مسبوقة إلا في إيران الثورة عام 1979، بظاهرة دمج الميليشيات في جهاز الحكومة الرسمي، أو ما يُطلق عليه العراقيون بـ”الدمج”، ومنحت أعوانها المناصب والشرعية القيادية لأجهزة الأمن تحديداً، ومنحتهم الرّتب العليا في “الداخلية” و”الدفاع” بطريقة فريدة ولافتة، وفرضت التصويت عليهم في البرلمان لتحقيق الشرعية القانونية، وكانت المحصلة إبدال هُوية الدولة العراقية إلى هُوية موالية إيران وميليشياتها.
وكان الجنرال قاسم سليماني مهندس هذا المشروع وعرَّابه، فرضه بشخصه وإملاءاته على السياسيين العراقيين السُّنة والكرد قبل الشيعة، بالتهديد والوعيد حيناً وبالإقناع أحياناً.
وبذلك، نال حظوة كونه القائد الإيراني الذي حقق ما عجز عنه غالبية القادة الإيرانيين المواكبين له، وترك بعد مقتله فراغاً كبيراً في فرض الهيمنة الإيرانية، وفرض رئيس وزراء شيعي يحكم البلاد كان يفرضه من زيارة واحدة لبغداد؟! وهذا ما يؤكده غالبية المشتغلين والعارفين بالسياسة العراقية.
انقلاب معادلة الهيمنة الإيرانية
وكما يقال في المثل العربي “تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ” فإنّ الأحداث اللاحقة بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني الرجل الميداني الفريد ومساعده العراقي أبو مهدي المهندس، أخلّت بالموقف والقرار الشيعي المتمثل برئاسة الحكومة، فالرأس الذي كان يقرر مستويات الحكم للبيت الشيعي قُطِع، وأدركت الميليشيات أن تماديها في فرض القرار لم يعد سهلاً كما في السابق، في ظل عودة تفعيل العقوبات الأميركية عليها بذراعها الجوية، وإعادة قواعدها التي تغطي عموم العراق، والنكوص على قرار الانسحاب الذي أراده الرئيس باراك أوباما خلاصاً من هذا الملف العراقي المعقد والمتعب والمليء بالمفاجآت!
فلم ينجح أحدٌ حتى اليوم في تشكيل حكومة شيعية يُقبل عليها المتظاهرون الشيعة أو بفرض رئيسٍ لها بعد فشل مهمة السيد محمد توفيق علاوي الذي اكتشف أنه يتفاوض مع رؤساء عصابات للمافيا، لا رؤساء أحزاب يطالبونه بمناصب ومكاسب لهم ولمكوناتهم، حسب تصريحه حال وصوله إلى مكان إقامته في بيروت، وانتقاله إلى لندن.
الاحتجاجات الشعبية وإحراج الحكم
من جهة ثانية، تتوالى الاحتجاجات الشعبية والاستحقاقات التي فرضتها خسارة 700 قتيل و30 ألف مصاب برصاص الميليشيات، التي ظلّت تتغطى بالحكومة وأسلحتها وسياراتها وناقلات الدرك التابعة لها، ما خلّف طلاقاً بائناً بين القبائل والعشائر العراقية وعموم الشعب في المنطقة الجنوبية والوسطى المؤلفة من الغالبية السكانية في العراق التي تطالب بمحاكمة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي وأعوانه، وتتهمهم بأنهم المسؤولون عن الضحايا في تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) حتى يومنا هذا.
بل، تعدى الأمر إلى مطالبة المجتمع الدولي ومحاكمه المختصة بذلك، والطرف الموالي إيران لا يزال متمسكاً برئيس الحكومة الحالي على الرغم من استقالته المعلنة، لأنهم يدركون أن البديل لن يخضع لمبدأ المحاصصة الطائفية الذي نادى الشعب بزواله.
انخفاض أسعار النفط كشف عورة الاقتصاد
جاء هبوط أسعار النفط ليضيف عبئاً كبيراً وحاسماً على ميزانية البلاد التي تعاني عجزاً يقدّره بعض النواب بـ50 مليار دولار وتأخّرها حتى الآن على الرغم من مُضي أكثر من ثلاثة أشهر على السنة المالية الحالية، وتلكؤ حكومة عبد المهدي المستقيلة رسمياً عن تقديم أي ميزانية للبرلمان للمصادقة عليها، بل وعجزها عن إعلان ميزانية صريحة تُرفع للبرلمان لئلا يُكشَف حجم الهدر المتوقع الذي ارتكبته حكومته، كما يُرجح اقتصاديون عراقيون.
والتجاوزات على المال العام حسب ترجيحات اللجنة المالية للبرلمان ولجان النزاهة البرلمانية والحكومية في سابقة خطيرة يزيدها تراجع أسعار البترول، لتشكّل طامة كبرى لواقع الاقتصاد العراقي المنهار وفق تحذيرات وزراء ومتخصصين عراقيين كثر.
عودة إلى مطالبات بتأسيس الأقاليم
من جديد، برزت المطالبات بإنشاء أقاليم فيدرالية، بمواجهة العنت الذي يمارسه السياسيون الشيعة من أتباع إيران، وهم يغرقون البلاد في فشلهم السياسي والاقتصادي، وممانعة المكون الشيعي نفسه من تأييدهم ذلك شجَّع الآخرين على المطالبة بالأقاليم التي يكفلها الدستور من ثلاث محافظات، فبدأ الساسة السُّنة علناً يناقشون ذلك، ويحضّرون الأجواء لفرضه، كما فرضه الكرد من قبلهم.
وأسقطوا مهمة تشكيل حكومة محمد توفيق علاوي على الرغم من التنازلات التي قدّمها لهم، وذكروه وسواه بأن الدولة الديمقراطية التي أسسها الاحتلال تقوم على عُرف المكونات والمحاصصة السياسية والاستحقاقات البرلمانية مجتمعة، وحكومة الإنقاذ الشيعي لن تمر من دون تأكيد كل تلك المعطيات والتسليم بها.
وهذا يتناقض مع مطالبات الشارع العراقي الذي يرفض المحاصصة، ويُسقط منْ ينادي بها، فوصل الأمر إلى خيارات لم يتوقّعها الحكم الشيعي في العراق الاتحادي.
انقسام البيت الشيعي مظهر للأزمة
من جانب آخر، يعمِّق الانشقاق الشيعي الداخلي إلى خمسة تيارات متقاتلة على المناصب والمكاسب وفرض الإرادات على الاستحواذ على الوزارات ذات الميزانيات “الدسمة” مالياً مثل النفط والكهرباء، أن تلك التيارات التي كان البيت الشيعي يجمعها باتت منقسمة، وينادي أصحابها بتغليب مصالحهم على مصالح المكون السياسي الذي يرفضه الشارع، وينتقده بشدة نتيجة حجم ونوع الفساد وسعيهم لكسب الأموال، وهدر ميزانيات الدولة على مشروعات وهمية، والتقيد باقتصاد ريعي أحادي سرعان ما كُشِفت عورته من أول أزمة واجهته، إضافة إلى عجز القطاعات الأخرى التي أماطت اللثام عن زيف المشروع النهضوي والصحي والاقتصادي والتعليمي في البلاد.
هذا ما جعل الشارع في حالة تذمّر ومطالبات بإقالة هذه الطبقة السياسية التي حوّلت العراق إلى بلد فاشل يعاني أبسط الأزمات التي يواجهها، وغير قادر على توظيف موارده لبناء نفسه من جديد .
صباح ناهي
اندبندت عربي