يحاصر تفشي فيروس “كوفيد 19” الاقتصاد العالمي في جميع مركباته المالية والاقتصادية والتجارية وحركة الإنفاق الاستهلاكي للسلع والخدمات، ويحير الحكومات والمستثمرين وخبراء الاقتصاد حول الكيفية التي يمكن من خلالها ضمان تسيير النظام التجاري والمالي العالمي وسط ما يحدث من تقطيع سلاسل الإمداد وانسياب السلع والبشر والتواصل.
وبينما تغلق الدول حدودها والشركات متاجرها والمستهلك منزله، تصاب حركة التجارة وأسواق المال والإنفاق بشبه شلل تام بسبب وباء “كوفيد 19”.
وتثار المخاوف حالياً من احتمال انهيار دورة الاقتصاد العالمي وتوقف الائتمان، وبالتالي يدخل العالم في عهد جديد من الفوضى وانعدام الأمن الغذائي، يصعب معه حساب الربح والخسارة.
ضمن محاولات الإنقاذ الجارية حالياً من قبل الحكومات للاقتصاد العالمي، أعلنت المصارف المركزية الكبرى وفي خطوة تنسيقية يقودها مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، خفض سعر الفائدة نصف نقطة ليصبح معدل الفائدة على الدولار ما بين صفر و0.25%.
وأعترف رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي، جيروم باول، أن البنوك الفدرالية لن تعالج الأزمة المالية التي خلقها الفيروس ولكن البنوك توفر الأموال للمصارف التجارية وتدعم أسواق المال.
لكن رغم خفض الاحتياط الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة إلى الصفر، مشاركاً في تحرك عالمي منسّق للمصارف المركزية، فإن مؤشرات أسواق المال الرئيسية في وآسيا أوروبا وأميركا تراجعت، حسب مؤشرات “ماركت ووتش” الأميركية التي تراقب أسواق المال والسلع الرئيسية. وهذا التراجع، يعني أن سياسة خفض الفائدة وضخ السيولة ربما ليست وحدها العلاج الناجع للأزمة المالية والاقتصادية التي يسببها الفيروس “كوفيد 19”.
وحسب مؤشرات المال التي تنشرها صحيفة “فاينانشيال تايمز”، فإن مؤشرات سوق “وول ستريت” خسرت 8.0% من قيمتها عند الفتح، وهي بذلك مقتربة من نقطة الانهيار التي عادة ما يتوقف فيها التداول، ثم هوى لاحقاً مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” إلى 9.7% ، مما دفع إلى تعليق تلقائي للتداول لمدة 15 دقيقة. وهذه هي المرة الثالثة التي يعلق فيها في ستة أيام.
وسط هذا الهبوط والفوضى التي يسببها فيروس “كوفيد 19″، يدعو اقتصاديون بضرورة اتباع الحكومة الأميركية وحكومات الاقتصادات الكبرى لسياسة مختلطة تجمع بين السياسة النقدية والسياسة الإنفاقية الموسعة في الميزانية التي تضمن استمرارية الشركات والوظائف، ذلك أن ضمان عدم انهيار أسواق المال والنظام المصرفي وحده الذي تنفذه المصارف المركزية بكثافة لا يمثل ضماناً لعدم وقوع الاقتصادات العالمية في كساد كبير، مثل الذي حدث في عام 1929 في أميركا.
ويدعو الاقتصادي والزميل في معهد “بيترسون انستيتيوت”، ديفيد ويلكوكس، إلى ضرورة شراء البنك المركزي الأميركي لديون الشركات لمدة طويلة حتى يتفادى الاقتصاد الركود الذي سيكون مكلفاً.
ويهدد حصار كورونا حالياًعجلة الإنتاج وخسارة الأفراد لوظائفهم في دول العالم، كما يهدد بإفلاس شركات الطيران وصناعة السفر، في حال استمرار الوباء لفترة طويلة.
من جانبه يرى خبير الاقتصاد العالمي بشركة بيمكو الأميركية، جواشن فيلز، أن القلق الحقيقي الذي ينتاب مخططي السياسات المالية والاقتصادية في الوقت الراهن، هو “تحول الركود الاقتصادي الذي أصبح ماثلاً للعيان إلى كساد اقتصادي وانهيار في أسواق المال”.
وحتى الآن هنالك حيرة بين كبار المستثمرين ومديري الصناديق حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة التي تختلف عن أزمة المال التي مر بها العالم في عام 2008.
في هذا الشأن، يرى الملياردير الأميركي، راى داليو، الذي يدير صندوق تحوط تقدر أصوله بنحو 160 مليار دولار، أن الأزمة التي يواجهها المستثمرون لا تتمثل في نقص الدولارات، إذ إن هنالك سيولة مهولة لدى المستثمرين.
وحسب الملياردير داليو فإن “صناديق التحوط الكبرى تتملكها الحيرة في الوقت الراهن ولا تعرف كيف تتصرف في أسواق المال لخفض الخسائر المحتملة”. وذكر في تعليقات نقلتها نشرة “ماركت ووتش” الأميركية، أنه تمكن من تحقيق أرباح خلال أزمة المال في عام 2008 ولكنه فشل هذه المرة.
ويرى العديد من الخبراء، أن “ما يواجهه العالم حالياً أزمة إنفاق استهلاكي للسلع والخدمات، فالمطاعم ودور الترفيه والمقاهي والمطارات خالية وحركة التنقل متوقفة وعملية الشراء متوقفة على الضروريات من الأكل والشرب.
كما أن أزمة المستثمرين في أسواق المال حالياً، تتجسد في أنهم لا يجدون ملاذات آمنة يهربون إليها، فالأسهم تتراجع في كل من أوروبا وآسيا وأميركا، رغم خفض الفائدة بنصف نقطة وضخ المركزي الأميركي نحو 1.5 تريليون دولار في السوق ضمن عمليات “ريبو”، وإعلانه أنه سيشتري سندات قروض عقارية قيمتها 200 مليار دولار للحيلولة دون انهيار سوق العقار في أميركا و500 مليار دولار من السندات، وفقاً لبيانات “وول ستريت جورنال”.
على صعيد سندات الخزانة الأميركية التي تعد من أدوات المال الأكثر أماناً بالنسبة للمستثمرين، تراجع ريع السندات الأميركية أجل 10 سنوات بنحو 18 نقطة أساس إلى 0.77%، كما تراجع ريع سندات الخزانة أجل سنتين بنسبة 18.4 نقطة أساس إلى 0.314%.
كما تراجعت أسعار الذهب، وهو الملاذ الذي عادة ما يلجأ إليه المستثمرون في لحظات الاضطرابات في أسواق المال، حيث افتتح تعامله في السوق الأميركية بسعر 1516.70 دولاراً للأونصة (الأوقية)، وبعد ساعات خسر نحو 44 دولاراً من قيمته متراجعاً بنسبة 2.98% إلى 1471 دولاراً.
ويوضح هذا التراجع في جميع أدوات المال والسلع، الحجم الحقيقي للكارثة الاقتصادية التي يعيشها العالم حالياً بسبب هذا الوباء اللعين.
كما يترجم المخاوف الحقيقية التي تنتاب البنوك المركزية العالمية من احتمال حدوث أزمة ثقة بين البنوك التجارية تؤدي إلى توقف انسياب الائتمان، وبالتالي تتوقف عملية تسديد الديون العالمية، حيث تعاني كل البنوك والشركات حول العالم من نقص حاد في الأموال، وتحديداً نقص الدولارات، بسبب أن معظم القروض العالمية تمت بالعملة الأميركية.
ولتفادي ذلك، يسابق المركزي الأميركي الزمن في ضخ أموال “ريبو”، إي إقراض البنوك التجارية لليلة، حيث بدأ ضخ أكثر من ترليون دولار في عمليات الإقراض قصير الأجل وربما يضخ نحو أربعة تريليونات دولار بنهاية الشهر الجاري.
وهذه الخطوة الضخمة يقصد منها، حسب محللين، ضمان عدم انهيار النظام المالي، وفقدان الثقة بين المصارف، وانهيار نظام التسويات المالية في أسواق المال. وهذا النظام المالي ينهار عادة، حينما يتوقف البنك عن الثقة في وضع شريكه التجاري، وما إذا كان شريكه التجاري سيفلس غدا أم لا. ثم تتوقف البنوك عن إقراض المصانع، وإقراض بعضها بعضا، لأنها غير واثقة من استرجاع أموالها.
ويساعد ضخ الدولارات حالياً في تهدئة الذعر في سوق الائتمان وأسواق المال، حيث يحتاج الجميع للدولارات لتفادي التخلف عن السداد والوقوع في براثن الإفلاس. ولكن حينما تهدأ الأسواق قليلاً، سيجد المستثمرون أن الأسواق غارقة في الدولارات وربما ينتهي هذا إلى تضخم أكبر في الأصول.
وعلى الرغم من أن العديد من الخبراء يسعى إلى المقارنة بين أزمة “كوفيد 19” وبين أزمة المال في عام 2008، إلا أن هنالك فارقا شاسعا من حيث طبيعة هذه الأزمة التي تجمد حركة التجارة والاستهلاك والسفر وبين أزمة المال العالمية التي عانت منها المصارف التجارية وانعكست بعد فترة على المواطن.
موسى مهدي
العربي الجديد