تخضع الحال الراهنة للسياسة الداخلية في دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى مفارقة غير مسبوقة مفادها أن جائحة كوفيد ــ 19، وليس أي اعتبار آخر قاهر، هي التي قد تجنّب الناخبين مغبة الذهاب إلى انتخابات جديدة للكنيست سوف تكون الرابعة خلال عام واحد، وهذه هي المفارقة الأصلية التي لا نظير لها أيضاً على امتداد تاريخ الكيان.
ثلاث دورات انتخابية، في نيسان /أبريل وأيلول /سبتمبر 2019 ثم في مطلع هذا الشهر، فشلت كما هو معروف في فك الاستعصاء وتأمين أغلبية عملية في الكنيست لكل من تحالف رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، وخصمه في المعارضة رئيس الأركان الأسبق بيني غانتس الذي يترأس تحالف «أزرق أبيض».
لكن الدورة الثالثة حملت بعض المعطيات الجديدة التي استوجبت تبدل المشهد، أو تحريك المياه الراكدة على الأقل، في طليعتها أن الجائحة أدخلت الرأي العام الإسرائيلي في سؤال الحاجة إلى «حكومة طوارئ» وليس فقط حكومة «وحدة وطنية» كما تردد في أعقاب الدورتين السابقتين، وما انبثق عن السؤال من حركة «مناقلات» في ولاء هذا النائب الإسرائيلي أو ذاك لهذه الكتلة أو تلك. أبرز الأمثلة موافقة أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» على ترشيح غانتس لتشكيل الحكومة، وانشقاق أورلي ليفي أبيكسيس عن كتلة «العمل» و«ميرتس» ومغازلة نتنياهو.
كذلك كانت جائحة كوفيد ــ 19 قد منحت وزير العدل الإسرائيلي الفرصة الذهبية المرجوة لتعليق أعمال القضاء وبالتالي تأجيل أولى جلسات محاكمة نتنياهو في اتهامات الرشوة والاحتيال وخيانة الثقة، الأمر الذي أسقط عن النقاش العام عواقب تكليف الأخير بتشكيل حكومة جديدة من داخل قفص الاتهام، فعلياً أو حتى مجازاً. ولم يكن ينقص مشهد المعطيات الجديدة سوى التقدم التاريخي الذي أحرزته «القائمة المشتركة» العربية حين دفعت إلى الكنيست بـ15 نائباً، وتوافقت داخلياً على استراتيجية تعددية فاعلة لتعطيل إعادة تكليف نتنياهو.
وفي مقابل هذا كله ليس ثمة الكثير من الخلاف حول الدرجة صفر التي تتصف بها حظوظ غانتس في التوصل إلى تشكيلة حكومية قادرة على الحياة حتى في مدى زمني محدود، والأسباب جلية ومتأصلة وكانت وراء تعثر الدورات الانتخابية الثلاث السابقة، وتظل اليوم أيضاً عبقة كأداء يكاد من المستحيل تخطيها. ولا يقتصر الاستعصاء على موقف ليبرمان العنصري من عرب 1948 ونواب «القائمة المشتركة»، بل أساساً لأن أي حكومة أقلية معتمدة على 61 صوتاً سوف تبقى في مهب رياح الخلافات والمطالب المتناقضة واحتمالات انهيار التوافق.
وفي غضون ذلك تواصل سلطات الاحتلال ارتكاب المزيد من الانتهاكات الصارخة على صعيد توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وترسيخ سياسات «التطهير العرقي»، الصامت الخفي تارة أو المكشوف المعلن تارة أخرى. وفي أحدث تقاريره يستعرض «المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان» تفاصيل بعض تلك الانتهاكات، سواء في القدس المحتلة أو الخليل أو نابلس، والتي يتساوى نتنياهو وغانتس في الإجماع على إقرارها وتشجيعها.
كذلك لا تخلو بعض الأعمدة في الصحافة الإسرائيلية من التباكي على «ديمقراطية» الكيان جراء ما يمرره نتنياهو من ممارسات الرقابة الإلكترونية تحت ستار معالجة كوفيد ــ 19 و«محاربة الإرهاب».
وبين فيروس الجائحة وفيروس استعصاء السياسة، لا يلوح أن دولة الاحتلال تنظر إلى الأمام بقدر ما تراوح في المكان أو تتلفت إلى الخلف.
القدس العربي