بعد توقعات سلبية وصادمة بشأن العام الحالي، جاء القرار الأخير من “كورونا”. ذلك الفيروس الذي تمكن خلال بضعة أسابيع من أن يهزم جهود العالم في مكافحة الركود الذي كانت المؤسسات تتوقعه في نهاية العام الماضي بخصوص العام الحالي.
ووسط حالات التوقف المفاجئ الناجمة عن تفشي فيروس “كورونا” وتداعياته، فمن المرجح أن يواجه العالم ركوداً اقتصادياً حتمياً خلال العام الحالي، وفقاً لرؤية معهد التمويل الدولي الذي قام قبل أيام، بتعديل تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالخفض إلى 0.4 في المئة.
معهد التمويل الدولي، أشار إلى أنه منذ تعديل توقعات نمو الاقتصاد العالمي بالخفض قبل أسبوعين، فقد طرأت بعض التغيرات التي أدت إلى تغيير الصورة بشكل كبير، حيث أسهمت حرب أسعار أوبك في زعزعة الاستقرار للأسواق الهشة بالفعل. كما شهدت الأسواق الناشئة تدفقات نقدية خارجة مع تركز عمليات تخارج المستثمرين خارج الصين، وسط تحول صدمة “كوفيد-19” التي اندلعت في الصين إلى صدمة أكبر بكثير في بقية أنحاء العالم.
وكانت تقديرات نمو الاقتصاد العالمي عن عام 2020 تم تعديلها بالخفض بداية هذا الشهر من 2.6 في المئة إلى 1.6 في المئة، بفعل الأداء المتوقع من الصين. وتسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط إضافة إلى تزايد حالة عدم اليقين بشأن “كوفيد-19” في توقف مفاجئ حاد في النشاط الاقتصادي.
الأزمة انطلقت من أميركا ومنطقة اليورو واليابان
وتوقع معهد التمويل الدولي أن تدخل كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان في حالة من الركود الاقتصادي في النصف الأول من العام الحالي على أن تشهد تعافياً في النصف الأخير من 2020. ويعني ذلك أن اقتصاد الولايات المتحدة سوف يشهد تراجعاً بنسبة 0.4 في المئة في مجمل عام 2020، في حين تسجل الصين نمواً بنحو 3.5 في المئة.
كما من المتوقع أن تشهد منطقة اليورو انكماشاً اقتصادياً بنحو 2.8 في المئة في عام 2020 في حين يرجح أن تعاني اليابان من تراجع ناتجها المحلي الإجمالي بنحو 1.5 في المئة هذا العام. وتعتمد هذه التقديرات على فرضية التعافي في النصف الثاني من العام الحالي على أساس حجة أن فيروس كورونا ينبغي أن ينحصر بحلول فصل الصيف، بحيث يتلاشى عامل الخوف الذي يعرقل الطلب العالمي.
لكن خطورة التوقف المفاجئ في أسواق رأس المال العالمية تعني أن الانتعاش يمكن أن يتحقق بوتيرة أبطأ، ما يعني أن عدم اليقين والمخاطر السلبية يسيطران على التوقعات بشكل كبير.
ونظراً إلى عقبة الإبعاد الاجتماعي وغيرها من التدابير الأخرى، يتوقع معهد التمويل أن ينكمش اقتصاد الولايات المتحدة بوتيرة سنوية 0.8 في المائة في الربع الأول من العام الحالي على أساس فصلي يعقبها انكماش بنحو 8.9 في المائة في الربع الثاني.
ومع تفاقم حدة الموقف بفعل كورونا، لم يعد السؤال يكمن فيما إذا كان العالم سيواجه ركوداً اقتصادياً من عدمه ولكنه يتمثل في كيف سيعاني الاقتصاد؟
الركود أصبح أمراً واقعاً بالفعل
وفي تقرير حديث، قال “بنك أوف أميركا ميرل لنش” إن الركود الناجم عن انتشار فيروس “كوفيد-19” لم يعد بالإمكان تجنبه لأنه أصبح واقعاً بالفعل، محذراً من فقدان الوظائف وتدمير الثروات. مؤكداً دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود رسمياً لينضم إلى بقية دول العالم في اتجاه هبوطي عميق.
ووفقاً للبنك الأميركي، فمن المتوقع أن “يتم فقدان وظائف، الثروات سوف يتم تدميرها، والثقة ستنخفض بقوة”. ورجح البنك في مذكرة بحثية، انكماش الاقتصاد الأميركي في الربع الثاني من العام الجاري بنسبة 12 في المئة على أساس سنوي، بينما يقدر أداء إجمالي العام بهبوط 0.8 في المئة.
وينظر البنك إلى سوق العمل كوسيلة لفهم “حجم الصدمة الاقتصادية” وسط تأثيرات الأسواق بالكورونا، متوقعاً أن يتضاعف معدل البطالة في الولايات المتحدة مع فقدان ما يقرب من مليون وظيفة كل شهر من الربع الثاني من العام الحالي.
وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، توقع “دويتشه بنك”، انكماش اقتصاد الولايات المتحدة بنحو 13 في المئة خلال نفس الفترة ليكون الأسوأ في تاريخ البلاد. وتعطل الإنتاج والعمل في عدد كبير من الولايات الأميركية مع انتشار الفيروس الذي أصاب الآلاف وقتل المئات حتى الآن.
وعلى الرغم من التحذيرات المستمرة من قبل صندوق النقد الدولي، لكن مسؤولاً بالصندوق، قال في تصريحات حديثة، إن وقع جائحة فيروس كورونا العالمية سيكون “شديداً”، لكنها جاءت عقب فترة نمو طويلة ومعدلات توظيف مرتفعة مما سيسمح للاقتصاد العالمي بامتصاص الصدمة الحالية.
وقال رئيس قسم سياسة ومراجعة الاستراتيجية بالصندوق مارتن مويلايزن، إن الهدف الرئيس للحكومات ينبغي أن يتمثل في الحد من انتشار الفيروس بطريقة تبث الثقة في أن الصدمة الاقتصادية ستكون مؤقتة. لافتاً إلى أن البنوك والحكومات اتخذت بالفعل خطوات غير مسبوقة لتوفير السيولة للأسواق وتيسير استمرار عملها، “ربما بأكثر مما كنا نحتاج”، لكن مثل هذه الخطوات ينبغي تنسيقه عالمياً لتعظيم أثرها. وأضاف، “كلما كانت ردود الأفعال الصحية حيال الأزمة أفضل تنظيماً وأكثر تنسيقاً، كانت إمكانية عودة الثقة أسرع”.
الناتج الإجمالي العالمي يفقد تريليون دولار
في تقرير حديث، توقعت مؤسسة الأبحاث “إكسفورد إيكونومكس”، أن يضرب الركود الاقتصادي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو بفعل كورونا مع توقعات تقلص الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من تريليون دولار.
وكانت اقتصاديات مثل اليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا تعرضت بالفعل إلى انكماش اقتصادي بالفعل أو فشلت في النمو قبل تفشي الفيروس، لكن يحتمل أن يكون الوضع أكثر سوءاً بنهاية الربع الحالي، وسط توقعات بتسجيل الصين أكبر وتيرة تراجع فصلي في الناتج المحلي الإجمالي في عقود.
ويشير يشير صندوق النقد الدولي، إلى أنه من السهل نسبياً وصف الركود الاقتصادي على الصعيد المحلي كونه يُعرف من الناحية الفنية على أنه انكماش في الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما لمدة فصلين متتاليين. أما بالنسبة لركود الاقتصاد على الصعيد العالمي، فيجب أن يكون تباطؤاً في النمو لأقل من 2.5 في المئة، مصحوباً بتراجع واسع النطاق ومتزامن في مختلف المؤشرات الأخرى للنشاط الاقتصادي العالمي بما في ذلك الإنتاج الصناعي العالمي والتجارة وتدفقات رأس المال والعمالة.
وأوضح الصندوق أن هناك أربع حالات ركود اقتصادي عالمي منذ عام 1960 وحتى الآن، وهي تلك التي وقعت في أعوام 1975 و1982 و1991 و2009 مع الإشارة إلى أن الركود المصاحب للأزمة المالية العالمية كان أكثرهم تدميراً.
وفي ظل هذه الأجواء، فإن السؤال الأهم يتمثل في إلى أيّ مدى ستكون شدة الركود العالمي المحتمل؟
وربما تبدو الإجابة واضحة من خلال تقارير وكالات ومؤسسات التصنيف الدولية، التي قامت خلال الأيام الماضية بفض تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى أدنى وتيرة ارتفاع منذ الأزمة المالية العالمية. حيث تتوقع وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي العالمي نمواً يتراوح بين 1 إلى 1.5 في المئة خلال عام 2020، نتيجة إجراءات احتواء كورونا، ما يعني أن العالم سيقع في حالة من الركود الاقتصادي.
الركود العالمي أصبح فرضية أساسية
في الوقت نفسه، يعتقد خبراء الاقتصاد في بنك “مورغان ستانلي” أن الركود العالمي فرضية أساسية، حيث يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 0.9 في المئة هذا العام. في حين أن مصر “غولدمان ساكس” يشير إلى نمو الاقتصاد العالمي هذا العام سيبلغ 1.25 في المئة، وهو ما يؤكد الوقوع في حالة من الركود.
ويرى “دويتشه بنك”، تعرض اقتصاد الولايات المتحدة إلى انكماش بنسبة 13 في المئة خلال الربع الثاني من العام الحالي على أساس سنوي بسبب الاضطرابات الناجمة عن فيروس كورونا، ما سيكون أسوأ انكماش في تاريخ البلاد. بينما توقع بنك “غولدمان ساكس” انكماش اقتصاد الصين بنحو 9 في المئة في الربع الأول من 2020 على أساس سنوي مع خفض توقعات النمو الاقتصادي في مجمل العام الجاري إلى 3 في المئة.
وحول مدة الركود المحتمل، وبالنظر إلى التاريخ، فإن الركود الاقتصادي الأخير، الذي وقع في الفترة بين عامي 2007 و2009، دام لنحو 18 شهراً ليكون أطول فترة ركود اقتصادي منذ الكساد العظيم في سبعينيات القرن الماضي، لكن على النقيض فإن الركود الاقتصادي في فترة الثمانينيات استمر لنحو 6 أشهر فقط.
وفيما يتعلق بالوقت الراهن، فإن مدة الركود تخضع إلى حالة كبيرة من عدم اليقين وسط غموض الأمور وعدم توقع إلى أي مدى ستتواصل مخاطر فيروس كورونا.
ويشير بنكا “غولدمان ساكس” و”مورغان ستانلي” إلى أن الركود الاقتصادي المحتمل سيكون أكثر شدة من الركود الذي وقع في عام 2001 لكنه لن يكون بنفس حدة ما حدث إبان الأزمة المالية. وتوقعوا أن يشهد العالم حالة من التعافي الاقتصادي في غضون النصف الثاني من العام، لكنهما يحذران من أن المخاطر تظل قائمة بقدر أكبر من الآلام الاقتصادية.
خالد المنشاوي
اندبندت عربي