الوباء يضع المخابرات في مشكلة مزدوجة

الوباء يضع المخابرات في مشكلة مزدوجة

ساهم تفشي فايروس كورونا المستجد في تعطيل كل القطاعات والأجهزة الحكومية في كل بلد بلا استثناء. ولم تمنع أعتى أجهزة المخابرات الغربية بدورها من البلبلة التي أحدثها الوباء رغم كل ما قيل عن التحذيرات التي تلقاها مثلا الرئيس الأميركي دونالد ترامب مبكرا من فايروس كورونا أو كيف تجسس جهاز المخابرات “الشاباك” على الإسرائيليين لوقف تفشي المرض. وتجد أجهزة الاستخبارات اليوم نفسها في مهمة صعبة ومشكلة معقدة ومزدوجة في تعاملها مع عدو مثلها غير مرئي.

باريس – أدى تفشي فايروس كورنا المستجد المعروف بوباء كوفيد– 19 إلى شل أكثر القطاعات أهمية وحساسية، ما أجبر جل الدول المتضررة من الوباء إلى أن تلجأ إلى العمل عن بعد.

ولم تستثن أخطار كورونا أي قطاع، فحتى أجهزة المخابرات القائمة أدوارها أساسا على التجسس تجد نفسها اليوم في صراع مع الوقت لإيصال المعلومات، وفي حرب مع الوباء الذي أجبر جل أعضاء فرق الاستخبارات الغربية على العمل من البيوت.

وبين الضغط الشديد على شبكة الإنترنت وتقليص حجم فرق أجهزة التجسس وتهديدات متعددة الأشكال، يُحدث تفشي فايروس كورونا المستجد بلبلة طالت أوساط المخابرات الغربية، في وقت ينحصر تركيز الحكومات على الوباء العالمي وحده.

وفي وقت ينغلق العالم بشكل متزايد على نفسه سعيا لاحتواء انتشار وباء كوفيد-19، تجد أجهزة المخابرات نفسها أمام مشكلة مزدوجة، إذ أنها مرغمة على إعادة تنظيم نفسها على نطاق واسع لتفادي انتشار الفايروس في صفوفها، فيما تواجه زيادة كثيفة للمبادلات عبر الإنترنت من محتويات رسمية وغير رسمية، سرية وعلنية، صحيحة وخاطئة.

تواصل الأجهزة عملها مترصدة التضليل الإعلامي والهجمات الإلكترونية بسائر أشكالها، فتنظم تناوب فرقها في المقرات، وهو ما يعرف في المعجم العسكري بـ”نمط منع التعطيل”.

وأوضح عنصر سابق في “المديرية العامة للأمن الخارجي” الفرنسية أن البريد الإلكتروني لأجهزة المخابرات العسكرية مشفر بمستوى من الأمان يتيح للعناصر استخدامه من
منازلهم.

لكنه أضاف أن هذا البريد لا يتيح الوصول إلى قواعد البيانات الأكثر حساسية موضحا أن “هناك استمرارية على صعيد العمل، لكن الاستخبارات الاستراتيجية ستكون حكما أقل حجما”.

عند بداية تفشي الوباء في مدينة ووهان الصينية، كانت جل الأنظمة وفي مقدمتها تلك التي تقود القوى العظمى تراهن على فاعلية أجهزة مخابراتها للتوقي من الفايروس ولاتخاذ إجراءات استباقية تجنب بلدانها الكارثة المنتظرة.

لكن انتشار المرض في رقعة واسعة من الأرض جعل أجهزة المخابرات بدورها مجبرة على التفاعل مع كورونا كعدو مباشر لها وجب التوقي منه قبل كل شيء ما عجّل باتخاذ أجهزة كثيرة من الاستخبارات الغربية إجراءات للتوقي من انتقال العدوى لصفوف عملائها.

وحاولت أجهزة المخابرات لعب دور فعال في إبلاع الحكومات بالتطورات والمستجدات في ما يتعلق بالوباء، حيث عمد رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو إلى إعطاء الضوء الأخضر لجهاز “الشاباك” للتجسس على المواطنين لوقف انتشار فايروس كورونا.

وسمح له بالحصول على بيانات من أي هاتف دون إذن في محاولة السيطرة على هذا الفايروس المستجد ومنع تفشيه.

وتعد التقنيات المستخدمة شبيهة بتلك التي تستخدمها هذه الأجهزة في حربها ضد الإرهاب.

ووفقا لما كشفت عنه أيضا منذ أيام صحيفة “فيلت” الألمانية اليومية، فإن جهاز المخابرات الخارجية الألماني (بي.أن.دي) قدم للحكومة الألمانية والسلطات الصحية في ألمانيا معلومات حول كورونا وعملية انتشاره قبل أسابيع من الإعلان رسميا عنه.

وبحسب معلومات واردة من الدوائر الأمنية، فإن جهاز المخابرات الألماني تنصت على مكالمات واتصالات لاسلكية للحكومة الصينية. ولم يمنح هذا الأمر عملاء الجهاز معلومات حول المرض نفسه فحسب، بل أيضا عن الاستراتيجية الأولية للحكومة الصينية للتستر على تفشي المرض.

وبنفس الطريقة تقريبا، تصرفت أجهزة المخابرات الأميركية في أزمة كوفيد – 19، وفقا لتقارير أميركية، فقد تطابقت أخبار تفيد بأن مدير الاستخبارات الوطنية، المسؤول عن جميع وكالات المخابرات الأميركية الـ17 أبلغ البيت الأبيض أنه أمر بالحصول على بيانات آنية حول أصل فايروس كورونا وتطوره وانتشاره والسيطرة عليه وتحليل كل ذلك.

وتعد الولايات المتحدة واحدة من البلدان القليلة التي لديها جهاز مخابرات خاص بالمعلومات الطبية والصحية، وهو ما يعرف بالمركز الوطني للاستخبارات الطبية (أن.سي.أم.آي) ، الذي يخضع لسلطة وكالة الاستخبارات الدفاعية (دي.آي.أيه). وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” مؤخرا، أن أجهزة المخابرات الأميركية نبهت في شهري يناير وفبراير الماضيين، بشكل سري، من تحول فايروس كورونا (كوفيد-19) إلى وباء عالمي، لكن الرئيس دونالد ترامب، استهان بذلك التحذير.

وأضافت الصحيفة أن ترامب والمشرعين الأميركيين قللوا من شأن تحذير المخابرات، وأخفقوا في اتخاذ إجراءات من شأنها الحد من انتشار الوباء الذي أصاب أكثر من 19 ألفا و770 شخصا داخل الولايات المتحدة.

وأثنى الرئيس الاميركي مرارا على جهود إدارته في كبح فايروس كورونا لأنه فرض قيودا سريعة على دخول الصينيين أو من زاروا البلد الآسيوي، لكن الولايات المتحدة سرعان ما شهدت ارتفاعا كبيرا في عدد المصابين بالعدوى.

وباتت أجهزة المخابرات في الولايات المتحدة اليوم تعاني من مشكلة كبيرة، على ما أوضح الباحث في جامعة جيمس أون في واشنطن والمحلل السابق في البحرية الأميركية براين بيركينز.

لكنه أضاف إلى هذه الصعوبات عقبة أخرى وهي التواصل البشري الذي يشكل عماد العمل الاستخباراتي، وبات في بعض الأحيان مستحيلا.

وقال “أكبر تحد يطرحه كوفيد-19 هو عجز العناصر الميدانية في الأجهزة عن العمل في المناطق التي تسجل تفشيا كبيرا للوباء، وخصوصا المناطق التي فرضت فيها قيودا على التنقل”.

ويحتم الخطر المتزايد في هذا الوضع تحرك فرق الاستخبارات بشكل مختلف والحد من النشاط قليلا، فيما لا يزال حجم العمل المطلوب على ما هو، لا بل في تزايد.

وتنصب جهود الإدارات والحكومات بشكل شبه حصري على الوباء، ويعود بالتالي لأجهزة الاستخبارات الاهتمام بما تبقى.

ويجمع الكل على أن الأخطار تأتي من شبكة الإنترنت، سواء مخاطر شن هجوم على هيئة رسمية أو إحدى البنى التحتية، أو التلاعب بالرأي العام الذي يسيطر عليه القلق من خلال بث أخبار مضللة.

وأعلنت الشرطة الأوروبية “يوروبول” في بيان “أن الجهات السيئة النوايا تستغل هذه الظروف الجديدة”، مضيفة أن “هيئات الاتحاد الأوروبي ذات الصلاحية على تواصل وثيق في ما بينها” من أجل مواجهتها.

إن مروحة التهديدات واسعة، من أعمال النهب الاقتصادية والاستراتيجية وتعديل البيانات (الانتخابية والعلمية وغيرها) مرورا بشل الخوادم وحملات التصيد الإلكتروني والتشهير وغيرها، لكن الخطر الأكبر الناجم عن دول عدوة أو مجموعات مدفوعة من هذه الدول، يكمن في هجمات مكثفة ومتطورة تستهدف إدارة أو هيئة.

وأشار خبير في هذا المجال أمضى سنوات طويلة في العمل الميداني إلى أن الدول الكبرى لديها شبكات متينة ومتكاملة تمكنها من مواجهة هذا الخطر.

وقال “هجوم إلكتروني ضخم ومكثف تنقطع فيه الإنترنت؟ يمكنك القيام بذلك ضد دول نامية. لكن لتعطيل الإنترنت في الدول الغربية، عليك أن تعمل جاهدا”.

كان البعض يأمل في هدنة في الهجمات الإلكترونية في العالم، إذ أن التعاون العالمي وحده يمكن أن يتغلب على الوباء الفتاك. لكنّ بن ريد من جهاز تحليل التجسس الإلكتروني في شركة “فاير آي” الأميركية قال “شهدنا خلال الأسابيع الستة الأخيرة هجمات صينية خطيرة تواصل عملياتها ضد أهدافها الخارجية الاعتيادية”.

وأكد “ما زال الوقت مبكرا لرؤية انحسار في حجم الأنشطة، لكن ما نراه مشابه للأنماط العادية، ولا مؤشر لهدنة”، مشيرا كذلك إلى مواصلة الأنشطة في كوريا الشمالية وآسيا الجنوبية وروسيا.

من جهتها قالت المحللة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن سوزان سبولدينغ “ليس من الضروري تعبئة الكثير من العناصر ولا الكثير من الموارد لشن هجمات كهذه”.

وتابعت “روسيا تخوض كل يوم عمليات تضليل إعلامي هدفها ضرب الثقة العامة في ديمقراطيتنا. وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنها ستتوقف”.

وتراقب الحكومات الغربية موسكو التي تتهمها بشن عمليات تضليل إعلامي متزايدة حول فايروس كورونا المستجد.

ونسبت مجموعة العمل “إيست ستراتكوم” التابعة للاتحاد الأوروبي والمخصصة لمسائل التضليل الإعلامي، إلى موسكو ما لا يقل عن 110 حملة وقعت بين 22 يناير و19 مارس، وهو ما يعتبر “من خصائص استراتيجية الكرملين الثابتة باستخدام التضليل الإعلامي لتوسيع الانقسامات وزرع الريبة والفوضى ومفاقمة أوضاع الأزمة”. وهي اتهامات ترفضها السلطات الروسية موجهة اتهامات بدورها إلى الغرب.

العرب