بدأت الدعوة إلى تطبيق النظام الفيدرالي لأول مرة عراقيا في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الاول 1992. وكانت هذه الدعوة نتاجا مباشرا لإدارة حكم الأمر الواقع الذاتي الذي نشأ في إقليم كردستان العراق بعد انسحاب الجيش العراقي منه. وقد تكرس بشكل نهائي حين شرّع برلمان كردستان في العام 2002، قانون فيدرالية «الإقليم الكردي»، ثم استمرت هذه الدعوة مع إقرار مؤتمر لندن للمعارضة العراقية، نهاية العام نفسه، بأن النظام الفيدرالي يمثل صيغة مناسبة لحكم العراق ينبغي الاستناد إليه لحل المشكلة الكردية.
وبعد احتلال العراق، أقر قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية الصادر عام 2003 في مادته الرابعة، النظام الفيدرالي رسميا، بل أنه اعترف بحكومة إقليم كردستان القائمة، بسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما وضع حدودا للإقليم نفسه للمرحلة الانتقالية (المادة 53/ أ)! ثم جاء الدستور العراقي في العام 2005 ليقرر إن العراق دولة فيدرالية (المادة 1)، وإن إقليم كردستان وسلطاته القائمة إقليم اتحادي» (المادة 117/ أولا)، وأكد حدوده القائمة تبعا للخط الأخضر الذي كان موجودا في آذار/ مارس 2003.
وقد شكل الإطار الدستوري للنظام الفيدرالي الذي قرره الدستور العراقي نموذجا فريدا لا يشبه أي تجربة فيدرالية في العالم أجمع، تحديدا في مسألة العلاقة بينه وبين السلطة المركزية فيما تعلق بالصلاحيات وحدودها.
ولكن السؤال المفاهيمي الأهم الذي لم يلتفت إليه أحد هو: هل يمكن الحديث فعلا عن إمكانية تحقيق نظام فيدرالي ناجح في دولة ريعية؟ وهل يمكن حقيقة الحديث عن إمكانية إضعاف المركز في ظل هكذا دولة؟ إذ ثمة تعارض مفاهيمي بين فكرة الفيدرالية التي تقوم على إضعاف المركز، مقابل تفويض بعض صلاحياته للأقاليم من جهة، وبين واقع الدولة الريعية التي تجعل الحكومة المركزية دائما في مركز القوة بسبب سيطرتها على الريع، وعلى توزيعه من جهة ثانية.
كانت أول دعوة سنية صريحة لتشكيل إقليم هي دعوة محافظ الأنبار الأسبق، الذي عينته سلطة الاحتلال، إلى فيدرالية الأنبار تحت عنوان «إقليم غرب العراق» في العام 2004، في ظل حمّى الفيدرالية التي اجتاحت العراق حينها، لكن هذه المحاولة أُجهضت بقوة مبكرا، بعد أن رفضت القوى السنية الرئيسة فكرة النظام الفيدرالي. وشهدت لحظة كتابة الدستور، ولحظة تمرير قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتشكيل الأقاليم رقم 13 لسنة 2008، رفضا شبه مطلق لفكرة الأقاليم. ولكن الأمور تغيرت وشهدنا في السنوات الثلاثة اللاحقة محاولات خجولة تدعو للنظام الفيدرالي. وبدأ الامر يأخذ منحى أكثر جدية بعد العام 2010 حيث دعا الزعيم السني الدكتور عدنان الدليمي، الذي كان هو نفسه من أبرز الرافضين لتضمين النص الدستوري نصا متعلقا بالفيدرالية، دعا صراحة إلى «الإقليم السني» في سلسلة مقالات كتبها.
إن الدعاة الجدد اليوم إلى الفيديرالية إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل «دعم» الفاعل السياسي الشيعي، وهم يعتمدون في وجودهم، وبقائهم عليه! ومن ثم فإن المشكلة الحقيقية التي يمر بها العراق حاليا إنما تكمن في بغداد وحدها، في بنية النظام السياسي المنتج للأزمات، والذي أثبت فشله الكامل
كما شهدنا ثلاث محاولات جدية ليس لتشكيل «إقليم سني»، بل لتشكيل أقاليم محافظات؛ كانت أولى هذه المحاولات في تشرين الاول/ أكتوبر 2011 عندما صوت مجلس محافظة ديالى ذو الغالبية السنية حينها، على تشكيل إقليم محافظة ديالى (صوت على القرار 18 عضوا من مجموع 29 عضوا). وفي الشهر التالي صوت مجلس محافظة صلاح الدين بالأغلبية على تشكيل إقليم محافظة صلاح الدين، لينضم مجلس محافظة نينوى لاحقا إلى هذه المحاولة. ولكن هذه المحاولات الثلاثة ووجهت بموقف صارم من رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي رفض هذه المطالب بشدة، رغم قانونيتها، ورغم أن القانون لا يعطي لرئيس مجلس الوزراء صلاحية البت في هكذا طلبات، بل يشترط تمريرها مباشرة إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من أجل البدء بالإجراءات الخاصة بذلك. وكان واضحا حينها أن ظهور هكذا دعوات من جهة، ورفض المالكي لها من جهة أخرى، يأتي في سياق الصراع السني الشيعي المحتدم حينها، وأن المالكي عد طلبا كهذا نوعا من تقويض سلطة الفاعل السياسي الشيعي على هذه المحافظات ذات الغالبية السنية!
بعد هذه المحاولات الثلاثة اقتصر الحديث عن الأقاليم سنيا على فيدرالية المحافظات، ولم تعد هناك دعاوى حقيقية وجدية لإقليم سني، ربما باستثناء محاولة واحدة ظهرت في العام 2015 قادها سياسي مغمور، ولم يلتفت إليها أحد! وثمة محاولة من فاعلين آخرين، تتردد اليوم، ولكن لأهداف لا علاقة لها بالأهداف التي كانت تسعى اليها الدعوات السابقة!
لم ينتبه كل هؤلاء من سذاجة الحديث عن إمكانية قيام فيدرالية «سنية» مفترضة»، أو فيدرالية «محافظات» ذات غالبية سنية، مع الوضع الجيوسياسي الإقليمي والدولي للعراق، سواء بالنسبة للمناطق المجاورة للمملكة العربية السعودية والأردن من جهة، وسوريا ومن خلفها لبنان من جهة أخرى، والعراق المركز الذي تهيمن عليه القوى الشيعية الموالية لإيران من جهة ثالثة، مع المحاولات التركية الجدية لإيجاد موطئ قدم من جهة أخرى، وفي سياق الحضور الأمريكي والدولي كأطراف مؤثرة على قرارات هذه الفيدراليات المفترضة. وفي سياق طبيعة الصراع على السلطة والثروة الذي يحكم العراق اليوم، إذ لا يمكن لهذه الأقاليم أن تقاوم هذه الاستقطابات، ولا يمكن لها أيضا إلا أن تكون مسرحا للصراع. وهذا الوضع لن ينتج أبدا التنمية التي يتحدث عنها دعاة هكذا فيدرالية لاسيما أن الصراع مع تنظيم «الدولة» (داعش) لم يحسم بعد، وأن الصراع بين الفاعلين السياسيين الشيعة والسنة لايزال فاعلا، والمشهد خارج العراق لا يبتعد كثيرا حيث الصراع بين المتشددين والمعتدلين في المنطقة، الذي يتمظهر اليوم بالصراع السني الشيعي وامتداداته إيرانيا وسعوديا، ولبنانيا داخليا، والبرنامج النووي الإيراني، وحماس وفتح، والأوضاع المضطربة في اليمن صراع الدولة والحوثيين من جهة، وصراع دولة الوحدة مع الحراك الجنوبي من جهة أخرى، ومصر في مواجهة الاختناق الداخلي وغيرها من مظاهر الاستقطابات الموجودة.
إن دعوات «السنة» الجدد إلى تشكيل أقاليم إنما تستند في حقيقتها إلى أوهام ورغبات أكثر مما تستند إلى أسس سياسية، لاسيما أن البنية الريعية للاقتصاد العراقي كما ذكرنا ستُبقي المركز قادرا على الهيمنة على هذه الأقاليم، بمعزل عما يقرره الدستور العراقي الذي فشل في أن يكون وثيقة ضامنة لمصالح الجميع، وتحول إلى مجرد أداة سياسية بإمكان الفاعل السياسي «الشيعي» استخدامها لمصلحته، بقوة النص، أو بقوة التأويل والتفسير، باعتباره يمتلك القدرة على إنفاذها! وقد أثبتت تجرية السنوات الأربعة 2013 2017 أن إقليم كردستان لم يكن يحظى بما حظي به نتيجة «إيمان» الفاعلين السياسيين «الشيعة» في بغداد بالنظام الفيدرالي، أو بسبب التزامهم بالدستور، بل بسبب الظروف السياسية التي حكمت سنوات 2003 2013. والأهم من هذا أن الدعاة الجدد اليوم إلى الفيديرالية، إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل «دعم» الفاعل السياسي الشيعي، وهم يعتمدون في وجودهم، وبقائهم عليه! ومن ثم فإن المشكلة الحقيقية التي يمر بها العراق حاليا إنما تكمن في بغداد وحدها، في بنية النظام السياسي المنتج للأزمات، والذي أثبت فشله الكامل. وأي محاولة لترحيل الأزمة إلى الأقاليم المفترضة، بسبب سذاجة سياسية، أو وهم هيمنة، أو حلم سمسرة سياسية فردية، لن يحل الأزمة السياسية في العراق، بل سيزيدها تعقيدا!
يحيى كبيسي
قدس عربي