شكّل اتفاق وقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا التي تم التوصل إليه في محافظة إدلب السورية في 5 آذار/مارس، الخطوة الأخيرة في عمليةٍ دأبت منذ نيسان/أبريل 2019 على تقليص حجم جيب الثوار إلى النصف. لكن حتى هذا الترتيب يبقى مؤقتاً نظراً لعزم بشار الأسد على التخلص مما يصفه هو وحلفاؤه بـ”جهادستان”. وتُظهر نظرة فاحصة على حالة الأراضي والخصائص الديمغرافية في المنطقة كيف ستؤدي التطورات الجارية على الأرجح، إلى قيام “قطاع غزة جديد” في شمال غرب سوريا – أي، منطقة للاجئين مكتظة بالسكان يسيطر عليها الإرهابيون، مما يرغم المجتمع الدولي بشكل أساسي على التعامل معهم لأنهم “سلطات الأمر الواقع”، وفقاً لتعبير الأمم المتحدة.
من “إدلب الكبيرة” إلى “إدلب الصغيرة”
يسيطرالثوار حالياً على 3,000 كيلومتر مربع فقط من إدلب، وهي مساحة أقل من 7,000 كيلومتر مربع كانوا يسيطرون عليها في نيسان/أبريل الماضي وأكثر من 9,000 كيلومتر مربع كانت تحت سيطرتهم في أيلول/سبتمبر 2017، عندما شن الجيش السوري أول هجوم كبير له لاستعادة “إدلب الكبرى”. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قدّر “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” (“أوتشا”) عدد السكان في جيب الثوار بـ 2,6 مليون نسمة. وفي نيسان/أبريل 2019، كان العدد 3 ملايين نسمة من بينهم 1,300,000 شخص نازح داخلياً. ومنذ ذلك الحين، فر أكثر من 400،000 شخص من الجيب بحثاً عن ملجأ في الجزء الواقع تحت السيطرة التركية المباشرة في شمال حلب. وخوفاً من عنف النظام واكتظاظ المساكن في إدلب استقر معظمهم في عفرين، في منازل هجرها الأكراد الذين فروا من الهجوم التركي في شتاء عام 2018.
انقر على الخريطة للحصول على نسخة أكبر
من حيث الأعمال الإنسانية، يَعتبر “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، إدلب وشمال حلب، كياناً واحداً في الوقت الحالي مع عدد سكانه البالغ 4 ملايين نسمة (2.6 مليون في إدلب و 1.4 مليون في شمال حلب). ويشير ذلك إلى أن الوكالة تتوقع فرار المزيد من النازحين في إدلب إلى شمال حلب في الأشهر المقبلة.
وفيما يتعلق بالمقاتلين الثوار، فقد كان عددهم في جيب إدلب يناهز الـ 50.000 قبل عام، رغم صعوبة تقدير عددهم اليوم بسبب خسائر الحرب والرحيل. ولا تزال تركيبة التمرد على ما هي عليه، مع هيمنة «هيئة تحرير الشام»، المحاطةً بتنظيمات جهادية مختلفة لا تزال مرتبطة رسمياً بتنظيم «القاعدة». وشاركت بعض الجماعات في المعركة الأخيرة ضد النظام لكنها لم تعد تسيطر على أراضي في إدلب (على سبيل المثال، «فيلق الشام»، «جيش الأحرار»). وهي الآن متمركزة في شمال حلب وجاءت [إلى المنطقة] مع الجيش التركي.
وعلى المستوى الميداني، فإن «هيئة تحرير الشام» قد رسّخت سيطرتها من خلال “حكومة الإنقاذ” التي شكّلتها في أيلول/سبتمبر 2017. وعملت هذه الإدارة تدريجياً على الإطاحة بالهيئات المحلية التابعة للحكومة المؤقتة في مدينة غازي عنتاب التركية، بالإضافة إلى اللجان المحلية التي استفادت من دعم المنظمات غير الحكومية الدولية. وبالتالي فإن السلطات التركية تتعاطى بأسلوبٍ واقعي مع الوضع من خلال تعاونها الوثيق مع «هيئة تحرير الشام» في إدلب. ويأمل زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني أن يصبح هذا الجيب منطقة عازلة تحت الحماية التركية مع إمكانية ازدهار إمارته الإسلامية. ومع ذلك، يجب أن ينحصر حلمه الآن بـ “إدلب الصغيرة”، وهي منطقة لا تتجاوز مساحتها ثلث المساحة التي كان يطمح إليها سابقاً، والتي يمكن أن تتقلص بصورة أكثر كما هو موضح أدناه.
غزة الجديدة
يتجمّع حالياً ثلثا سكان إدلب في شريطٍ على الحدود التركية مساحته 1,000 كلم2، ويبلغ عددهم مليونَي نسمة، أو أكثر بأربعة أضعاف مما كان في هذه المنطقة الحدودية أصلاً. فقد استقر في تلك المنطقة مئات الآلاف من النازحين منذ عام 2012، ومعظمهم احتشدوا في مخيمات مؤقتة منتشرة على الأرض، لا سيما بعد امتلاء مخيمات النازحين النظامية. وحتى المساكن في بلدات الشريط الصغيرة مليئة بالسكان وتوفر ظروفاً أسوأ من تلك القائمة في المخيمات. إن واقع كَوْن هذه المنطقة المكتظة بالسكان ترزح الآن بالكامل تحت سيطرة الجماعات المصنفة كإرهابية، تجعل المقارنات مع غزة لا مفر منها.
انقر على الخريطة للحصول على نسخة أكبر
بخلاف مناطق المدنيين الأخرى في إدلب، سَلِم هذا الشريط الحدودي من القصف الجوي – ليس بسبب متاخمته لتركيا، بل لأن الأسد وحلفاءه يريدون أن يتهافت المدنيون من مناطق الثوار إلى هذه المنطقة على وجه التحديد. وثمة عامل قوي آخر يستقطب النازحين إلى هذه المنطقة، وهو قربها من المساعدات الإنسانية التي تصل عبر المعبر القريب باب الهوى. وفيما يتعلق بالمنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة، فحالما تدخل الأراضي السورية، لا تبتعد كثيراً عن المعبر لأسباب أمنية. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن القليل من النازحين متحمسون للعودة إلى منازلهم في أجزاء أخرى من “إدلب الصغيرة” التي تقع أبعد من الحدود ولكنها لا تزال تحت سيطرة المتمردين. وقد تم قصف هذه المناطق خلال القتال السابق، ولا يثق السكان السابقون بوقف إطلاق النار الحالي. وبدلاً من ذلك، إنهم على استعداد للفرار إلى تركيا أو شمال حلب في حال قيام النظام بشن هجوم آخر.
المضاعفات التي تقع على عاتق “إدلب الصغيرة”
تبلغ حالياً مساحة جيب المتمردين الواقع بين “غزة الجديدة” والأراضي التي يسيطر عليها النظام حوالي2,000 كلم2 ويقطنه نصف مليون شخص. ومعظمهم من السكان الأصليين أو النازحين الأكبر سناً الذين هم الآن في بيوت سَكَن دائمية أو ملاجئ جماعية، مع عدد قليل جداً من المخيمات غير الرسمية.
وقد تجنّب النازحون الجدد هذه المنطقة بسبب قربها الكبير من الجبهات الأمامية، من بينها مدينة إدلب. وخلال الهجوم الأخير في شباط/فبراير، فرّ العديد من السكان من عاصمة المحافظة. ويبلغ عدد سكانها الحالي 200,000 نسمة على الأكثر – وهو أعلى من إجمالي عددها ما قبل الحرب الذي كان يبلغ 150,000، ولكنه عدد صغير مقارنة بالعدد الهائل من النازحين في المحافظة. ويقصف النظام إدلب بانتظام لأنه لا يريد أن تشكل حكومة «هيئة تحرير الشام» إدارة متنافسة في عاصمة آمنة. وتتطلب استراتيجيته لمكافحة التمرد وقوع مدينة إدلب إما في أيدي النظام أو العيش تحت تهديد عسكري دائم.
أما البلدات الصغيرة، على غرار الأتارب وتفتناز وبنيش، فلا يمكن فعلياً اعتبارها أكثر أماناً من إدلب لأنها أصبحت الآن في مرمى نيران النظام. وأصبح الآن جبل الزاوية الواقع جنوب الطريق السريع “إم 4” [“M4”] خالياً بعد أن خشي سكانه أن يصبحوا محاصرين إذا ما تحوّل الطريق إلى خط تماس جديد.
وعلى طول الطريق السريع “إم 4” نفسه، الذي يربط حلب واللاذقية، تم تجريد شريط من الأراضي يبلغ عرضه 12 كيلومتراً من السلاح. وطالبت موسكو وأنقرة بالسماح لقواتهما بالقيام بدوريات مشتركة بِحُرّية على طول هذا الطريق: الروس على الطريق الجنوبي والأتراك على الطريق الشمالي. ورفضت الجماعات الجهادية هذا التنازل لأنه يعني تفكيك خط دفاعها الرئيسي جنوب إدلب ووضع جسر الشغور وجبل الكبانة وأريحا في مرمى الجيش السوري.
وتُعتبر جسر الشغور نقطة استراتيجية رئيسية، وكان عدد سكانها 50،000 نسمة قبل الحرب، والغالبية العظمى منهم من العرب السنة. وتشكل هذه المدينة منفذاً إلى سهل الغاب من الشمال وإلى المنطقة العلوية الأكثر أهمية للنظام من الشرق. وقد تمسّك بها جيش النظام حتى أيار/مايو 2015، حين استولت عليها التنظيمات التي سبقت «هيئة تحرير الشام». وقُتل واختُطف مئات المدنيين العلويين خلال الهجوم الذي امتد إلى قريتَي اشتبرق والزيارة جنوب المدينة. إن الرغبة في الانتقام على هذه الأعمال، إلى جانب القيمة الإستراتيجية للمدينة، تجعلها هدفاً ذا أولوية للنظام على الرغم من وقوعها شمال الطريع السريع “إم 4”.
وعند الجهة الجنوبية الغربية من الطريق السريع، يقع جبل الكبانة الذي يشكّل العصب الرئيسي للدفاع عن جسر الشغور. وتسيطر هذا الكتلة الصخرية على سهل الغاب والوادي العِلوي لـ “النهر الكبير”، وهو الطريق الطبيعي الذي يربط اللاذقية بجسر الشغور. ومنذ نيسان/أبريل 2019، يقوم النظام السوري بقصف جبل الكبانة بشكل مكثف، ولكن هجماته البرية فشلت أمام دفاعات الجهاديين. وقد عملت قوة المدافعين المؤلفة إلى حد كبير من مسلمي الإيغور على حفر شبكة من الأنفاق جعلت الكتلة الصخرية خندقاً محصّناً حقيقياً. وإذا خسر المتمردون الطريع السريع “إم 4″، فسيتم تطويق جبل الكبانة.
وأريحا، وهي بلدة تقع جنوب الطريق السريع كان يسكنها في السابق 60 ألف نسمة، فارغة حالياً تقريباً بسبب القصف العنيف في شباط/فبراير. وقد جعل الجيش السوري هذه البلدة أولوية خلال هجومه الأخير لأن التلال القريبة تهيمن على الريف لمسافات تصل إلى عشرات الكيلومترات.
وللجيش التركي وجود خفيف على جبهة الطريع السريع “إم 4” لأن حماية “غزة الجديدة” هي الآن مصدر قلقه الرئيسي. ولا تريد أنقرة رؤية حالة من الذعر يحاول فيها مليوني لاجئ جديد دخول تركيا. وعلى الرغم من قيام القوات التركية ببناء نقاط مراقبة إضافية بالقرب من جسر الشغور وسراقب، إلّا أن هاتين المحطتين لا توفران حماية جدية للسكان المحليين – وخلال الهجوم الأخير، كانت ثمانية من أصل 12 مخفراً أقامتها تركيا عام 2018 محاصرة من قبل الجيش السوري. ويشكل وجود 9,000 جندي تركي في “إدلب الصغيرة” صعوبة أكبر، ولكن إلى متى سيبقون هناك؟
تسوية جغرافية سياسية
لدى كل طرف منخرط في إدلب أهدافٌ واضحة وحاسمة. وتريد روسيا التخلص مما تعتبره وكراً للإرهاب. وأسندت «هيئة تحرير الشام» والجماعات الجهادية الأخرى أظهرها على الحائط، وبالتالي فهي مستعدة للقتال حتى النهاية المريرة إذا لزم الأمر، بتكلفة كبيرة للقوى المعارضة. ولا يزال الأسد يريد استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية، على أن تكون خالية من المعارضين له. وترفض تركيا التنازل عن جزء آخر من إدلب دون تعويض يساعدها على مواجهة أعدائها الأكراد السوريين إلى الشرق. وقبل كل شئ، لا تريد المزيد من اللاجئين. وبالمثل، يرتعب الاتحاد الأوروبي من احتمال تدفق عدة ملايين من اللاجئين الجدد إلى حدوده.
وتشير هذه المصالح – إلى جانب الوضع العسكري على الأرض وافتقار واشنطن الواضح إلى الاهتمام بمواجهة روسيا بجدية بشأن إدلب – إلى أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو حل وسط يتم بموجبه تقليص مساحة جيب الثوار/النازحين داخلياً بصورة أكثر ليصبح “غزة الجديدة”. ومن الواضح أن هذا ليس الحل الأفضل لملايين السوريين المحتجزين في هذه المنطقة الضيقة، ولكن لا يبدو أن أيّاً من الجهات المعنية تعتبر ذلك سبباً كافياً لاختيار مسار مختلف.
فابريس بالونش
معهد واشنطن