شهد الأسبوع الماضي مبادرات حكومية في الولايات المتحدة وأوروبا لتحفيز الاقتصادات ودعم الأفراد جرّاء ما سببه التفشي العالمي لفيروس كورونا (كوفيد- 19)، من شلل لجوانب الحياة المختلفة، حيث أُرغم نحو ثلث سكان العالم على البقاء في منازلهم لوقف انتشار الفيروس القاتل.
ومع استمرار تراجع اقتصادات العالم في ظل هذه الأزمة، هناك توقعات لتدهور أكثر حدة خلال الأسابيع المقبلة في مشهد أكثر فوضوية كثيراً من الركود الاقتصادي الكبير الذي وقع عام 2008.
وفي الولايات المتحدة، أقرّ الكونغرس الأميركي بعد اتفاق مع البيت الأبيض، خطة تحفيزية للاقتصاد بما يزيد على تريليوني دولار، هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ البلاد، والتي تهدف إلى عدم خسارة العمال وظائفهم، حسبما أعلن دونالد ترمب. وتنطوي الحزمة على تخصيص 250 مليار دولار للمدفوعات المباشرة للأفراد والأسر من خلال منح شهرية للفرد تبلغ 1200 دولار، و250 مليار دولار لإعانات التأمين ضد البطالة، والتي ستتراوح بين 200 و500 دولار للفرد أسبوعياً، فضلاً عن 350 مليار دولار قروض للمشروعات الصغيرة، و500 مليار دولار كقروض للشركات المتعثرة.
وفي ألمانيا، تبنّى البرلمان خطة تدابير شاملة بقيمة 1100 مليار يورو، تشمل قروضاً بـ 156 مليار يورو لدعم الشركات والموظفين ونظام الصحة، ومئات المليارات كضمانات للقروض المصرفية الممنوحة للشركات.
كما قدّمت حكومات أوروبية أخرى خطط دعم للأفراد والعائلات، من بينها الحكومة البريطانية التي أعدّت خططاً لمساعدة مليونين تقريباً، من بين 5 ملايين شخص يعملون لحسابهم الخاص.
هذه التحركات أثارت جدلاً واسعاً في معاقل الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومنحت الفرصة أمام اليسار المتشدّد للترويج مجدداً للحاجة إلى مزيد من الاشتراكية.
على سبيل المثال، قال بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي المحتمل لانتخابات الرئاسة الأميركية والذي ينتمي إلى الجناح التقدمي، إنه كان يمكن احتواء الفيروس بسهولة أكبر إذا كان لدى الولايات المتحدة نظام تأمين صحي للجميع، تغطيه جهة واحدة. وانتقد نظام الرعاية الصحية الذي تديره الشركات باعتباره يفاقم تهديد الوباء.
وأشار البعض إلى أن الوباء والأزمة الاقتصادية في 2008 وعواقب أسعار النفط المنهارة، جميعها تكشف عن الظلم والتفاوتات الشديدة في النظام الاقتصادي والاجتماعي، مما يؤكد الحاجة إلى ثورة مجتمعية والاتجاه نحو مزيد من الديمقراطية الاشتراكية.
وتساءل آخرون “هل ستجعلنا هذه الأزمة ندرك الحاجة إلى اعتمادنا المتبادل، مما يدفع إلى تبني نوع السياسات الاقتصادية أو الاجتماعية التي لا يتم العمل بها في الأوقات العادية بسبب حساب المصلحة الذاتية؟ هل ستستثمر الحكومات في الرعاية الصحية والإسكان والتعليم والتدريب للمواطنين الذين تركتهم قوى العولمة؟”.
هذه التعليقات وغيرها اعتبرها البعض محاولة من أولئك الذين يدفعون نحو الاشتراكية، لاستغلال أزمة فيروس كورونا لتنفيذ أجندتهم.
وبعيداً عن الأيديولوجيات السياسية، يقول جيمس تراوب، الزميل لدى مركز التعاون الدولي بجامعة نيويورك، إن “أزمة وباء كورونا يمكن أن تعيد إحياء مفهوم دول الرفاه، من خلال صعود فكر التضامن السياسي، حيث تطرح تساؤلاً جادّاً بشأن أي ظروف سياسية يمكن أن تجعل الدول توافق على معالجة عدم المساواة وتوفير السلع العامة المعززة عن طريق زيادة الضرائب على الأغنياء”.
بينما شبّه الكاتب الأميركي دان مكلوغين، في مقال بمجلة “ناشونال ريفيو”، التدخل الحكومي الحالي من خلال الحوافز المالية لدعم الاقتصاد، بـ”رجل الإطفاء وليس اشتراكية”. وأوضح أنه “عادة ما يكون رجال الإطفاء من بين المسؤولين الحكوميين الأكثر شعبية لأنهم يظهرون عند الحاجة، ينهون العمل، ثم يغادرون. ولا يوجد تناقض في ترحيب الأميركيين بهؤلاء عندما يصلون إلى مكان الحريق، ولكنهم يفضلّون مغادرتهم عندما ينتهون. إن جوهر الرؤية التقدمية الاشتراكية للحكومة هو أن رجال الإطفاء لا يغادرون أبداً”.
ويضيف أن “الحكومة لها دور في منع الحريق من اجتياح حي بأكمله. ويتطلب هذا الدور بنية تحتية أكثر ديمومة في المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان، لكنه لا يزال يعتمد بشكل كبير على القدرة التطوعيّة للقطاع الخاص الواسع والمبدع من الأطباء والممرضات ومصنعي الأجهزة الطبية وشركات الأدوية. إن حشدهم على أساس وطني في وقت الأزمات ليس مثل تحويلهم إلى جيش دائم من موظفي الخدمة المدنية”.
ويشير مكلوغين إلى أن “الموارد التي يمكنهم الاعتماد عليها الآن لن تكون موجودة إذا حقّقنا الحلم التقدمي باستنزاف معظم أو كل دافع للربح والتنوع المحلي من قطاع الرعاية الصحية لدينا”.
ويقول بيل شير، المحلل السياسي الأميركي، إنه “في حين يرى بعض الاشتراكيين داخل الحزب الديمقراطي أن حرص الجمهوريين على تبني التحفيز الحكومي الضخم، كعلامة على أن الرياح قد تحوّلت لصالحهم، لكن الأمر لا يعدو كونه استجابة لأزمة اقتصادية مفاجئة”.
ويضيف أن “الدمار الذي أحدثه فيروس كورونا يدفع الناس في جميع أنحاء العالم إلى التساؤل عما يجب أن يحدث لكي يكون كوكبنا صالحاً للعيش. وبالتأكيد لدى الاشتراكيين فرصة للإسهام في هذه المحادثة، ولكن بالنسبة إلى معظم الناخبين فإن الأمر أصبح أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، إننا بحاجة إلى قادة يعرفون كيف يمنعون الأوبئة”.
ويتابع “لا تتعلق هذه الأزمة بالأيديولوجيا، الأمر يتعلق بالكفاءة. فاثنتان من الدول الأوروبية اللتان تتبنيان نهج ساندرز في الرعاية الطبية تشهدان انهياراً للنظام الصحي في ظل الأزمة الحالية”، في إشارة إلى إيطاليا وإسبانيا.
ويلفت شير إلى حاكم نيويورك، أندرو كومو، وهو ديمقراطي براغماتي تعرّض لمعارضة من الجناح اليساري المتشدد في الحزب، لكنه يحظى باستحسان حتى من منتقديه من خلال مؤتمراته الصحافية لإدارة الأزمات. وأشاد بن سميث من صحيفة “نيويورك تايمز” به، قائلا “يعقد كومو مؤتمرات صحافية مليئة بالحقائق والأرقام (الدقيقة) كل يوم تقريباً. يشرح الأنظمة والتحديات وصنع القرار بطريقة يفتقر إليها ترمب”. ويضيف “قرأ كومو الوضع بشكل أفضل من ساندرز وزملائه الاشتراكيين. بصفتهم أيديولوجيين، يرى الاشتراكيون الديمقراطيون أزمة ويتحركون على الفور لاستغلالها من أجل تعزيز أيديولوجيتهم. لكن معظم الناس، في خضم الأزمة، يريدون فقط من قادتهم معالجتها وليس استغلالها”.
إنجي مجدي